كيف تطبّع مع جثة متفسخة؟!

2023.08.02 | 06:15 دمشق

كيف تطبّع مع جثة متفسخة!
+A
حجم الخط
-A

لم تطلب أميركا من "نظام الأسد" /تغيير سلوكه/ إثر مقتل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005، بل أمرته بالخروج من لبنان فوراً؛ ونفّذ الأمر بأسرع من الوقت المحدّد. لأكثر من عقد زمني، تسبّب "النظام" ذاته باعتقال وتعذيب وتغييب وقتل وتشريد ملايين ممَّن هم افتراضياً "شعبه"، وبتدمير ما هو افتراضياً "بلاده"؛ وكان أقصى ما طَلَبَته منه أميركا ذاتها /تغيير سلوكه/.

تدرك أميركا أكثر من غيرها، أن أي تغيير في سلوكه، هو نهاية له؛ لذا تستند في طلبها هذا إلى تحصينات مضادّة موجودة في بنيته تتمثّل بانفصاله عن الواقع والعناد والمكابرة والرعب من أصغر تغيير. يعزّز حصانته تلك إشاحة أميركا الطرف عن دعم إيراني ميليشياوي له، وتدخُّل روسي يضمن بقاءه؛ وعلى عدم استجابته، واطمئنانه لقرارات دولية رخوة مبهمة، لا أحد يحرص على تنفيذها.

ومن هنا، حرصت أميركا في سياسة إداراتها المتعاقبة تجاه القضية السورية خلال السنوات الماضية على الالتزام بمعادلة "اللا حسم" بحيث {لا ينتصر النظام، ولا ينتهي} من جانب؛ و{لا تنتصر الثورة السورية، ولا تنتهي} من الجانب الآخر. استلزمت تلك السياسة الاستنزافية التفاعل مع تطورات القضية السورية ومواقف وأفعال المنخرطين بها، لتتحول سوريا إلى ساحة لتصفية الحسابات وتحقيق المصالح المترافقة مِن قبلهم، مع تجاهل لجوهر القضية السورية المتمثل بصراع شعب يريد استرداد حريته وحقه، ومنظومة استبدادية هاجسها البقاء في السلطة بأي ثمن.

تحولت روسيا إلى "الدينمو" والمحرك الأساس لعملية التطبيع، طامحةً إلى منجز سياسي بعد أفعالها العسكرية في سوريا، التي ولّدت منها الخراب؛ ودبلوماسيتها في الساحة الدولية، التي جنت منها إبقاء النظام الأسدي حيّاً

ومع وصول الوضع في سوريا، بعد كل هذه السنين، إلى حالة استنقاع يستحيل فيها استمرار النظام؛ كان لا بد من محاولة أخيرة لإعادة تكريره، وطيّ صفحة إجرامه عبر الاقتراب العلني معه، مع عدم ممانعة مكتومة أو تأييد علني من قبل ماسك الخيوط الأساس. وهنا تحولت روسيا إلى "الدينمو" والمحرك الأساس لعملية التطبيع، طامحةً إلى منجز سياسي بعد أفعالها العسكرية في سوريا، التي ولّدت منها الخراب؛ ودبلوماسيتها في الساحة الدولية، التي جنت منها إبقاء النظام الأسدي حيّاً.  

عملت روسيا على جبهتين في هذا الصدد: واحدة عبر استغلال مسار "أستانا"، لإحداث تقارب بين "النظام" وتركيا؛ وأخرى عبر جبهة الجامعة العربية. في الأولى استغلت روسيا علاقتها الخاصة مع تركيا، وانتخاباتها الرئاسية؛ وفي الثانية اعتمدت على غياب مشروع عربي تجاه القضية السورية، وعلى بهلوانية أحد الدول الخليجية ورغباتها التطبيعية الأوسع من التطبيع مع الأسد، والمتمثلة بطموحات للتطبيع مع إسرائيل وسحب الأسد بذلك الاتجاه، كتحصين وضمانات تحت خيمة "السلام الإبراهيمي".

ولطالما حرص بوتين على تقديم أوراق اعتماده لإسرائيل، كي يضمن الرضى الغربي، ويُحكم قبضته على الداخل الروسي؛ وأن يحظى بقوة مميزة في الساحة الدولية؛ فلا بد أنه اعتقد بأن فعله "التطبيعي" لنظام الأسد، سيجد الطريق ممهدة عبر هذا المسار "الإبراهيمي" المنسجم مع التوجه الأميركي. ولسوء طالعه "لم يكن الليل كما اشتهى الحرامي":

في الجبهة الأخرى "العربية"، ظن بوتين أن حظوظه ستكون أفضل؛ بحكم رغبة العرب بدور سياسي فاعل في منطقتهم، وحلمهم بصدِّ التأثير الإيراني وعبثه؛ وستغريهم إعادة "أخيهم" إلى حضنهم

  • ظنّ بوتين أنه يستطيع القفز على الدور وعلى التأثير الخانق لإيران الملالي على الأسد. لقد وجد نفسه في وقت مضطراً لقبول فرض إيران نفسها على اللقاء الثلاثي الذي جمع (النظام وروسيا وتركيا) في موسكو؛ وليصبح اللقاء رباعياً بوجود إيران؛ وليملي الأسد شروطاً على تركيا من إخراج الملالي. بَرَدَت موجة التطبيع التركية - الأسدية. ثم حسم صديقه أردوغان الانتخابات، فجمُدَت الموجة.
  • في الجبهة الأخرى "العربية"، ظن بوتين أن حظوظه ستكون أفضل؛ بحكم رغبة العرب بدور سياسي فاعل في منطقتهم، وحلمهم بصدِّ التأثير الإيراني وعبثه؛ وستغريهم إعادة "أخيهم" إلى حضنهم؛ إلا أن هناك مَن أرسل له عدوّه "زيلينسكي" إلى قاعة قمة التطبيع مع وصول الأسد إليها، ليذكّره بغزوه لأوكرانيا، وإيصال رسالة تعكس الاستراتيجية الأورو-أميركية بتحجيم وجوده، أو حتى خنقه في الساحة السياسية العالمية.
  • والأدهى من كل ذلك كان اهتراء منظومة /المُطَبّع معه/ وعدم قدرته على القيام بأي خطوة تؤهله ليعود "طبيعياً". فهو مثل بوتين ومثل "حليفته" دولة الملالي، يرزح تحت قوانين عقوبات خانقة، في شبه دولة مسلوبة المقدرات والإمكانيات. إنه منظومة ترعبها أكثر من مليون وثيقة تجرّمها؛ "حاضنتها" "المتجانسة" في حالة تململ خطير؛ إيران تتغلغل وتتغوّل في حياتها وفي النسيج السوري. هذا إضافة إلى محيط إقليمي يضيق ذرعاً بلاجئين سوريين هجّرتهم أخذهم المطبعون حجة للتقارب منها، وعملية سياسية أجهضتها بيدها؛ وفي معتقلاتها بقايا معتقلين ومغيبين صراخهم يصم الآذان. باختصار، المطبع معه في حالة من الانكشاف الكامل كجثة متفسّخة تنتظر الدفن فقط.
  • فوق هذا وذاك، إذا كان بعض المطبّعين يعتقدون أن ما أقدموا عليه يسهّل تطبيعهم وتطبيعه مع إسرائيل، فهم واهمون؛ لأن هذا النظام بسجلّه تجاه "شعبه"، سيكون عبئاً حتى على إسرائيل، رغم الخدمات الجليلة التي أُسديت. فمن جانبه، إذا ما فكّر بالقفز إلى فضاء التطبيع معها، فسيكون قد فقد ما عاش عليه مزاودةً وكذباً في "المقاومة والممانعة" طيلة حياته. ومن هنا، حتى آمال ذلك البعض في الحصول على "مكسب" كهذا، ستكون خلّبية.

مع هذا الانكشاف الفاضح للجميع، مع غياب الحجج التي سيقت للاقتراب من تلك الجثة السامة، مع عيشها على عائدات الكبتاغون، مع استمرار تغول المشروع الإيراني العابر للحدود العربية، ومع استمرار الملالي بالعيش على التوترات وإعادة الحياة لأذرعها التي تنشر الوباء، ومع غرق بوتين في أوكرانيا، ومع العقوبات الغربية ومساعي مناهضة التطبيع ولو ظاهرياً؛ والأهم مع الانكشاف الكامل لهذه الجثة السامة؛ ألم يحن الوقت لإعكاس الموجة العربية والعودة لجوهر القضية السورية والوقوف مع ملايين تريد استعادة بلدها وحياتها؛ والتمترس من قبل تلك الدول العربية أممياً، وتحقيق الانتقال الحياتي والسياسي اللازم لسوريا وشعبها بالتعاون مع آلاف السوريين الذين يستطيعون قيادة بلدهم إلى بر الأمان؟!