مواطنون من دون حقوق ودول من دون مشروعية

2023.03.15 | 06:24 دمشق

مواطنون من دون حقوق ودول من دون مشروعية
+A
حجم الخط
-A

شهدت الأوساط السياسية والحقوقية العالمية في السنوات الأخيرة حديثاً مستمراً محوره مفهوم المواطنة وحقوق المواطنين، وواجبات الدولة ونظامها السياسي ممثلة بمؤسساتها نحو الأفراد الذين منحوها صلاحياتها بموجب العقد الاجتماعي.

لم يكن محور الحديث يتضمن تجريد الدولة بشخصها الاعتباري من تلك الصلاحيات، أو اعتبارها غير مؤهلة للثقة التي منحوها لها، وإنما كان حول من يصلح للقيادة ولوضع بنود العقد  المذكور آنفا موضع التنفيذ.

نعرف كسوريين أن نظام الحكم في سوريا لم يأبه للقواعد الدستورية ولا تهمه فكرة العقد الاجتماعي من عدمها، وأن فكرة المواطنة لم تعنِ لحكامه ومسؤوليه شيئاً على الإطلاق، وأنهم كانوا يعاملوننا كمجموعة من الحيوانات الأليفة المروَّضة، موضوعة في أقفاص عاجزة عن الحركة ومتنازلة عن حقوقها، لا طواعية وإنما بالإجبار، وكل ما عليها أن تؤدي دورها في منحه الشرعية اللازمة لوجوده أمام الرأي العام العالمي.

ذلك أمرٌ اختبرناه على الدوام وكنا عاجزين عن الوقوف ضده أو رفضه في مرحلة معينة، ثم دفعنا أثماناً غالية وباهظة نتيجة تمردنا على العرف السائد بالخضوع للحاكم وعدم الثورة ضده، بموجب فتاوى دينية تارة أو بسبب الرعب من البطش الأمني تارة أخرى، لكن الأمر الأكثر جللاً في هذه الحالة أن كثيرين منا كانوا عاجزين عن الثورة وربما غير راغبين في الانخراط فيها بسبب حالة من اليأس، وعدوى عدم جدوى التغيير المنتشرين.

المشكلة هنا لم تقف عند حدّ أنها مشكلة نظام مستبد تجاه مواطنيه فحسب، بل انتقلت لتشكل معضلة لدى المواطنين بحد ذاتهم، فأصبحوا عازفين عن التغيير بسبب شعور متوارث بالعجز واللاجدوى، نتيجة تجارب ثورية سابقة قد مروا بها أو نتيجة الحكايات التي تتناقلها الأجيال عن بطش النظام وأعوانه.

بما أن ما تمنحنا إياه مؤسسات الدولة المفترضة كان موسوماً بالفضل والمنة، فقد أصبحنا مع الوقت لا نخجل من كوننا نتسول حقوقنا واحتياجاتنا

ما الذي كنا نعرفه حقيقة عن حقوقنا حين كنا نعيش في كنف آل الأسد وكيف كنا نسعى إلى تحصيل حقوقنا؟ لقد كنا مجرد أجساد بشرية عاجزة عن تحصيل مكتسبات معنوية وحقوق شخصية، فما بالك بتحصيل حقوق شعب كامل، كانت علاقتنا بالمؤسسات أشبه بعلاقة متسول مع مانحه والكلام يشمل الطرفين على حد سواء، نحاول تحصيل احتياجاتنا بالتسول تارة أو بالدخول مرغمين في منظومة الفساد التي جعلت نفسها ظلاً حقيقياً للهياكل الإدارية الموجودة على أرض الواقع، لكنها كانت ظلاً مسيطراً تشغّل الموظفين الإداريين لحسابها.

وبما أن ما تمنحنا إياه مؤسسات الدولة المفترضة كان موسوماً بالفضل والمنة، فقد أصبحنا مع الوقت لا نخجل من كوننا نتسول حقوقنا واحتياجاتنا أو نحتال على النظم لتحصيلها، ومع الوقت أيضاً تناسى مسؤولو البلاد المتربعون على عرش مؤسساتها أدوارهم وبدؤوا يبيعون الخدمات ولا يقومون بواجباتهم التي تمليها عليها مهامهم.

لا توجد لحظة تاريخية فارقة كانت هي الفيصل في تحولنا من مواطنين إلى متسولين، لقد ورثنا تلك العبودية ولم نبذل جهداً كافياً لتغيير تلك الحقيقة، ثم دربتنا التجارب بشكل جيد وجعلتنا مطواعين وليّنين بقدر مرعب.

لم تكن حالات الطوارئ والكوارث الطبيعية والبشرية لتغير شيئاً من واقعنا المزري، الأمر الذي أوضح أن عقدنا الاجتماعي هو مجرد حبر على ورق، وأن الدولة (بمؤسساتها ومسؤوليها) غير معنية أو عابئة بحياة مواطنيها وأن شكل الدولة لدينا لا يشبه أياً مما نظّر به المفكرون لتنظيم حياة المجتمعات، وأن سوريا ومثيلاتها من الدول ليست سوى مزرعة لا يحق لقاطنيها سوى الحصول على المأوى والغذاء ـــ إن وجد ــــ وما هي إلا شكل عصري من أشكال العبودية.

لقد ألمّت بالسوريين محن كثيرة وعاشوا الكارثة تلو الأخرى ولم تحرك المؤسسات المسؤولة عن حمايتهم وتلبية احتياجاتهم ساكناً، ليس ذلك بسبب الحرب مثلما يدعي البعض ولا بسبب الحصار الذي فرضته الدول القوية في العالم، ذلك أن الحصار المفروض يُستثنى منه الحالات الإنسانية التي تقف في وجهها حواجز أياً كانت الحالة الأمنية والسياسية التي تعاني منها البلاد.

لم يجد السوريون نفسهم سوى وحيدين في هذه المرة أيضاً، فكان عليهم انتشال أنفسهم من تحت الأنقاض بجهود ذاتية، أو انتظار رحمة المساعدات من الدول الشقيقة والصديقة التي ستكون بدورها عرضة للسرقة قبل وصولها إلى مستحقيها.

نال السوريون المهجرون منهم أو المقيمون في الداخل السوري والمقيمون في شمال البلاد أيضاً نصيبهم من الإهمال واللامبالاة من مؤسسات تعتبر نفسها ممثلة عنهم، ومرت حالة الزلزال مرور الكرام من دون بصمة تذكر لمؤسسات تعتبر نفسها ممثلاً شرعياً على الجانب المعارض للنظام السوري، من دون إحصاءات رسمية عن شهداء ومفقودين، من دون زيارات للمتضررين أو وجود حالة استنفار لإنقاذهم، ومن دون تطمينات أو سعي حثيث لإعادتهم إلى منازل مناسبة بعد أن اضطروا للبقاء في العراء.

كان السوريون عوناً لبعضهم بعضاً فقط، بجهد المجتمع الأهلي الذي مد فيه السوريون أيديهم لينتشلوا أنفسهم من كذبة أمل رددوها على مسامعنا عقوداً.

مسألة تغيير النظام السياسي  ليست هدفاً بحد ذاتها، فالأولى أن نعيد قراءة مفاهيمنا وترتيب أولوياتنا من أجل صياغة دولة قانون حقيقية

ليست المرة الأولى التي يصبح فيها السوريون من دون منازل ويسكنون العراء أو يهيمون على وجوههم من دون وجهة محددة، غير أن مجريات الأمور كانت واضحة هذه المرة بألا يضع السوريون ثقتهم في أي ممن يدعي تمثيله السياسي إلا بعد أن يستعيد حقه كمواطن.

لا يمكن أن نسمي بلداننا دولاً طالما أننا فقدنا الثقة في مؤسساتها، أما مسألة تغيير النظام السياسي فهي ليست هدفاً بحد ذاتها، فالأولى أن نعيد قراءة مفاهيمنا وترتيب أولوياتنا من أجل صياغة دولة قانون حقيقية تعبر عن تطلعاتنا وتكون مقابلاً حقيقياً لما نستحقه، وتعويضاً عادلاً لقاء باهظ الثمن الذي دفعناه وما زلنا في سبيل تغيير واقع السوريين السياسي والاجتماعي.

أما فيما يخص حالة الصراع السياسي والمادي على المناصب والمكتسبات وتبادلها مع بقاء الثقافة السياسية القديمة سائدة، فهي حالة لا يمكن أن تختصر أحلام السوريين وطموحاتهم أو تشكل لهم هدفاً سياسياً، إذ علينا قبل تغيير شكل النظام السياسي أن نكون دولة لا تمتلك وجودها إلا من وجود مواطنيها الذين من المفترض أن يتمتعوا بحقوق كاملة، في مقابل الصلاحيات والنفوذ الذي منحوه لممثليهم بإرادتهم الحرة في دولة تعاقدوا على مبادئها معاً كأطراف متساوين في العلاقة.