متى نحوّل الأوهام إلى دروس ومشاريع عمل؟

2022.08.22 | 06:52 دمشق

مَتى نحوّل الأوهام إلى دروس ومشاريع عمل؟
+A
حجم الخط
-A

ثَبَتَ أن انفصام الأسدية عن الواقع يحجب ويحول دون إقرارها بوجود أزمة أو حتى كارثة تحلُّ ببلدٍ وشعبه، جاعلةً من سوريا بؤرة متفسّخة ومشتعلة تهدد سلام المنطقة والعالم. داء انفصام "النظام" هذا أصاب شعب سوريا، وكلَّ مَن يحتَكُّ أو ينخرط بالمسألة السورية؛ لتصبح الأوهام سيّدة الموقف، وتؤدّي إلى حالة الموات والاستنقاع التي نشهدها.

لقد توهّمَ نظام الأسد، بحكم طبيعته الاستبدادية، أن الحل العسكري هو سبيله الوحيد للخلاص مِمَّن خَرَجَ عليه؛ فقتل ودمّر واعتقل وشرَّد وأفقر، وحَشَد قوى احتلال لينجز توهمه؛ ولكن عبثاً. تلاشت قوة أذرع إجرامه، وانحسرت سيطرته، وتمزّقت مملكة نفوذه، وأصبح منبوذاً؛ يرتبط بقاؤه بديمومة الاحتلال عبر رهن ما بين يديه لِمَن يحمي هذا البقاء دون سيادة أو قرار. وزاد في الطين بلة أن عدوى توهمه أصابت ليس فقط الاحتلال الذي يحميه، بل شعب سوريا المنتفض على الاستبداد، ومَن قارب المسألة السورية في ضفته وفي الضفة الرافضة له، ومن تعاطف معها.

ثَبَتَ أيضاً أن المنظومات الدكتاتورية يمكن أن تحتمل الإهانة والإذلال، وتحاور، وتساوم، وتتنازل أمام أي قوى خارجية (شريطة ألاّ يكون ذلك علنياً أو مكشوفاً) ولكن لا تحتمل، ولا يمكن أن تقبل أو تسمح لِمَن تحكمهم حتى التجرؤ على مخالفتها أو معارضتها؛ فمصير ذلك نهاية الفاعل بأي طريقة. السوريون والعالم شَهِدَوا تجليات تلك المعادلة ومفاعيلها عام 2011، عندما تجرأ المحكومون على صرخة الحرية والوقوف بوجه المنظومة المستبدة، التي لم ترَ فيهم إلا "جراثيم، وخوَنة، وإرهابيين"؛ فقتلتهم واعتقلتهم ودمّرت بيوتهم وشرّدتهم مستعينةً عليهم بقوى خارجية، باعتها البلد تحت يافطة "إخوة وحلفاء"، كي تبقي على سلطتها.

في عدوى الانفصام، لم يكن حُماة النظام إيران وروسيا في تاريخهما على هذه الدرجة من المأزومية والتخبط، رغم كل ما يظهر عليهما من رباطة جأش وثقة بما يفعلون

وحتى اللحظة، لا سلطة الاستبداد حسمت الأمور، و"انتصرت" على مَن ثار عليها؛ ولا الثورة انتصرت، وتخلصت من الاستبداد. والجانبان مصابان بمرض الوهم، وهو حالة جَذْرُها الأساس البنية الانفصامية المُعْدية لمنظومة الاستبداد التي أصابت كل المنخرطين في القضية السورية.

ففي عدوى الانفصام، لم يكن حُماة النظام إيران وروسيا في تاريخهما على هذه الدرجة من المأزومية والتخبط، رغم كل ما يظهر عليهما من رباطة جأش وثقة بما يفعلون. انتاب بوتين إحساس بالنشوة "القيصرية"؛ بعد أن حوّل "غروزني"، في وقت من الأوقات، إلى أرض يباب؛ ولكن بعد دخوله إلى سوريا، واحتكاكه بمنجم الانفصام، ربما تجاوز الحالة القيصرية؛ وتجلّت مفاعيل ذلك بتفكيره بابتلاع أوروبا، وانطلق مشروعه من "قرم" أوكرانيا. أما بالنسبة للشأن السوري، فهناك تطابق بين انفصام النظام وأوهامه، وبين مقاربة بوتين للمسألة بالمجمل. بوتين لا يرى أن هناك شعباً سورياً يحق له أن ينال حريته، ولا يرى أن ما فعلته منظومة الاستبداد، وبدعم طائراته، غير عادي. فما جرى بالنسبة له "مؤامرة غربية على سلطة شرعية وسيادة بلد مستقل باستخدام أدوات محلية إرهابية أو خونة"؛ وأن منظومة الاستبداد التي يحميها لا بد من إعادة تأهيلها سالمة غانمة كتحصيل حاصل؛ وأن العملية السياسية ليست إلا تكتيكاً ريثما يتم طي صفحة ما حدث وكأن شيئاً لم يكن.

إيران، من جانبها، راقت لها تلك الأوهام وتماهت معها، واعتقدت أن ذلك ما يناسب انسياب وتسلل مشروعها على أكمل وجه، ليعبث بمحيطها العربي كاملاً. تلك الأوهام كانت المساهم الأكبر بامتداد وتقرح الجرح السوري، واستطالة القضية وتعقدها. ولكن الأوهام في الضفة المقابلة لم تكن أقل من تلك التي برع النظام وأعوانه في ابتداعها.

توهم السوريون أن "حقوق الإنسان" شرعة عالمية تنطبق عليهم بأسرع ما يمكن، ولا يمكن إلا أن يستنفر العالم لنجدتهم ونصرة قضيتهم المحقة التي لا تحتاج لتوثيق. فاتهم أن هذا العالم يمكن أن يقف على رؤوس أصابعه من أجل دجاجة أميركية أو أوروبية، ولكن لا يرف له جفن إن ضربهم نظامهم المجرم حتى بالسلاح الكيماوي؛ ببساطة لأن هذا "النظام" كان قد سلّف الأقوياء خدمات لا طائل لهم بها. توهم السوريون بأن نظامهم عدو لإسرائيل، كما تصدح أبواق "المقاومة والممانعة"، وإذ به خادمها الأمين، وهي الحريصة على بقائه قدر الإمكان لإنجاز مهمة تدمير سوريا. توهموا أن لهم أكثر من مئة دولة "صديقة للشعب السوري"، وإذ بتلك الدول (باستثناء بعضها) تنافق، ولا تزال على غزلها مع منظومة الاستبداد.

كان للوهم طعم آخر تجاه تركيا؛ فهي التي اعتبرت من نزح إليها من السوريين "مهاجرين" بين أهلهم "الأنصار"، بنكهة حديثة لتاريخ قديم؛ وهي مَن حمَل الملايين منهم؛ في وقت أوصدت فيه أبواب كثير من إخوتهم العرب في وجوههم. نسي أو تناسى السوريون والحال هكذا أن لتركيا مصالح ولها أمن وطني يصعب أن تفرّط به؛ فتوهموا أن تركيا ستقاتل الدنيا من أجلهم. تضعضع حالهم، وارتهن قرارهم بعد أن خذلهم العالم، ولم يبقَ إلا تركيا إلى جانبهم، إلى درجة أن وفد معارضتهم "للمفاوضات" كان يُطلَق عليه اسم "الوفد التركي"، أكان لجنيف أو لأستانا أو للدستورية.

كانت رسالتهم الخالية من الأوهام لصديقتهم الوحيدة، تركيا، بأن "المصالحة" التي قد تفيدها آنياً، ستكون قاتلة مستقبلياً؛ ولا يمكن بالنسبة لهم أن تكون بديلة عن حل شامل

كان الوهم متبادلاً بين "المهاجرين" و"الأنصار"؛ ونسوا المثل القائل بأن "كثرة الألفة، تولّد الازدراء"؛ فالجانب التركي تصوّر أن قضية ضيوفه بيده بالمطلق، ولم يدرك أن ضعفها واستلاب قرارها هو ضعف له، والعكس صحيح. والضيوف استرخوا معتقدين أن الأقدار والأخ التركي سيحرر لهم بلدهم ناسين أن استعادة الأوطان لا تحتمل التفريط بقرار قضيتهم، و"أستانا" ليست وقف إطلاق نار، و"الدستورية" لن تقتلع لهم الأسد، وعلاقة مضيفهم مع الروس - حُماة مَن شَرَّدَهم - في ظل الحصار الغربي لتركيا، تستلزم بعض المساومة، التي لا بد أن تكون على حسابهم. يستيقظ الفريقان فجأة على حقائق غيّب الوهم وضوحها، فتخرج تصريحات تركية صادمة حول "الصلح" مع قاتلهم، ويخرجون بالملايين رفضاً لذلك، ليبدو وكأنهم يخرجون ضد تركيا؛ وهم بالفعل يخرجون صحوة على حقيقة أن لا يحك جلدهم إلا ظفرهم، وأن قوتهم بوحدة جسدهم وكلمتهم وتحالفهم الصحيح مع مضيفهم.

لقد استفاق السوريون فجأة، واستوعبوا بدقة فحوى الرسالة التركية المقصودة. لقد كانت رسالتهم الخالية من الأوهام لصديقتهم الوحيدة، تركيا، بأن "المصالحة" التي قد تفيدها آنياً، ستكون قاتلة مستقبلياً؛ ولا يمكن بالنسبة لهم أن تكون بديلة عن حل شامل. صرختهم المدوية عالمياً تقول إنه لا حل سياسي في سوريا بوجود منظومة الاستبداد. لقد تمّ كسر الوهم الذي أغوتهم به دول ومنظومة دولية لا صِدقيّة لها؛ كما أدركوا أن لا حلَّ لهم باستمرار تبعثرهم، واستمرار أوهام وضعف معارضة خذلتهم.

إذا كان "صديقك مَن صَدَقَكَ"، فالسوريون صدقوا بصرختهم التي لا وهم ولا إيهام فيها. فكما يعرفون تماماً أنهم لا يستطيعون فرض أي أمر على تركيا؛ فهم لا يتوقعونها أو يريدونها أن تَفْرِضَ عليهم ما يزهق حقهم، ويقفل مستقبلهم باسترداد بلدهم من الاستبداد والاحتلال. لقد دفع السوريون الأغلى؛ وما بقي لهم ما يخسرونه إلا العذاب الذي يعيشونه. يلزمُهُم خطة لحل التناقضات والتشرذم القائم، ومشروع عمل تعاوني قوامه الأخلاق والروح الوطنية الجديدة المبنية على تفكير جمعي وأسلوب عمل جديد منهجه اقتلاع أشواكهم بأيديهم، ومثاله ما يحدث في بعض المحافظات السورية من اقتلاع ظواهر الخبث والتسلط والتشبيح، التي تقودها عصابات النظام المجرمة. إن انتفاضة تلك الأمكنة - كما ترجمتها مظاهراتهم الضخمة في الشمال السوري - أعادت جذوة الثورة؛ وستكون قابلة للاستمرار كانتفاضة دائمة، توصلهم إلى أهدافهم بوجود ضمائر حيّة وعقول نيّرة.