لا عزاء للسوريين إلا بأنفسهم

2018.07.11 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

رئيس الوزراء المجري "فكتور أوربان"، الذي يعتبر منذ وقت طويل أشد معارض في الاتحاد الأوروبي لسياسة ميركل تجاه اللاجئين، يرفض استقبال طالبي اللجوء الذين تنوي ألمانيا ردهم بموجب بنود اتفاقية دبلن للاجئين. هذا ما نقلته المستشارة أنغيلا ميركل عنه بعد لقائها به يوم الخميس الخامس من تموز/ يوليو 2018 في برلين. فبلاده لا تشعر بأي مسؤولية بالنسبة إلى النظر في طلبات اللاجئين". فهي ترى أن طالبي اللجوء هؤلاء "غير مسجلين أصلاً وجاؤوا من دول أخرى خصوصًا من اليونان"، كما صرح في اللقاء نفسه.

بينما قالت المستشارة الألمانية في اللقاء نفسه: إنه لا يمكن لأوروبا أن "تتجاهل" ما يعانيه اللاجئون وحاجتهم للمساعدة. وقالت وهي تقف إلى جانب أوربان، وفي لهجة غير مألوفة منها: "يجب ألا ننسى أن الأمر يتعلق ببشر.. بشر جاؤوا إلينا وهذا يرتبط بالرسالة الأساسية لأوروبا.. الإنسانية".

في الواقع، وبغض النظر عن موقف الأنظمة والحكومات الأوروبية،

يعاني الشعب السوري، كما كان منذ سنوات سبع، من أبشع وأشرس حرب عرفها التاريخ المعاصر، الحرب التي دفعته إلى النزوح عن أرضه ودياره وركوب المخاطر كلها، ليتشتت في بقاع الأرض ويصير اسمه لاجئًا.

فإن تلك المبادئ الإنسانية والمفاهيم التي ينشأ عليها الفرد الأوروبي ويفتخر بها، مفاهيم حول العدالة والمساواة والديموقراطية والحقوق وغيرها، فإن الغالبية بالنسبة للشعب الألماني ما زالت متمسكة بها، حتى لو ازدادت نسبة الأصوات المتذمرة من وجود اللاجئين والتي لا يمكن فصلها عن خطاب اليمين الشعبوي الصاعد في أكثر من بلد أوروبي، وعن ممارسات بعض المهاجرين في المجتمعات المستقبلة. وها هي المظاهرات تخرج في عدة مدن ألمانية تندد بالمواقف الأوروبية المتشددة بالنسبة لقضية اللجوء والهجرة، بعض اللافتات المرفوعة كتب عليها: " اللاإنسانية ليست رأيًا سياسيًا، أو" حقوق الإنسان لا تنتهي في البحر المتوسط".

إنه أمر مؤلم، ففي الوقت الذي تُعتبر فيه قضية اللجوء قضية خلافية كبيرة تُعوّم على السطح بالنسبة لأوروبا التي لديها من دون شك أزماتها الكبرى التي تهدد كيان الاتحاد الأوروبي بالانهيار، يعاني الشعب السوري، كما كان منذ سنوات سبع، من أبشع وأشرس حرب عرفها التاريخ المعاصر، الحرب التي دفعته إلى النزوح عن أرضه ودياره وركوب المخاطر كلها، ليتشتت في بقاع الأرض ويصير اسمه لاجئًا، ويصير كلاجئ مشكلة خلافية يُسام بسببها كل أشكال المهانة وجور الحياة. من يرى الآلاف الشاردة تحت سياط الشمس هاربين من القتل في درعا ومناطقها تغلق في وجوههم الحدود ويُتركون للعراء والقدر، وتنديدات الهيئات والمنظمات الدولية التي تقلق وتصدر البيانات وترتب مواعيد جلسات لن تقدم ولن تؤخر فيما هو مرسوم من خطط واتفاقيات وتواطؤات بين الدول الضالعة في مأساة هذا الشعب، لا يستطيع ألاّ يبصق في وجه هذا العالم الخائن الجبار المتغطرس المولع بالدم. ما حصل مؤخرًا في درعا، والمأساة الإنسانية التي هبطت على أهلها مع القصف من الجو والأرض، وهرب سكانها من ساحات النيران وجهنم الأرضية وانغلاق كل الحدود في وجوههم، لا يمكن فصله عن الحراك النشط حاليًا في أوروبا حول موضوع اللجوء، ففي النهاية الحكومات هي التي ستتخذ القرارات، ومن المؤكد أن هذه الحكومات المنتخبة بطريقة ديموقراطية إلى حد كبير لا يمكنها اتخاذ قرارات جريئة وقطعية من دون التشاور والتداول، فهناك عملية سياسية، أحزاب معارضة، ورأي عام، وهناك ناخبون يقظون لممارسات وأداء الحكومة، وبإمكانهم أن يعرقلوا الأداء أو يسحبوا الثقة من حكوماتهم أو يجبروها على الاستقالة، لذلك اتخاذ القرار ليس أمرًا اعتباطيًا، إن كان مع أو ضد قضية اللجوء والهجرة. من هذا المنطلق ربما كانت المواقف التي تتخذ في الظل أو اللعب تحت الطاولات تملي على الأنظمة الإقليمية الضالعة بشكل مباشر في الحرب السورية أن تتخذ مواقف من هذا القبيل، إغلاق الحدود ومحاصرة النازحين عن بيوتهم وتركهم تحت سطوة المناخ القاسي والبيئة الخطيرة يعانون العطش والجوع وتهديد عوامل البيئة والمناخ.

في الوقت نفسه صارت مشاهد الآلاف من السوريين الهائمة في طرق المجهول مهجرة من ديارها هاربة من القتل من دون وجهة ولا أمل بالخلاص من جحيمها، عادية بالنسبة لكثير من السوريين أيضًا،

لقد أغلقت الحدود في وجه السوريين بعد النزوح الأول، عندما كان النزوح أداة يمكن استعمالها في اللعب السياسي.

فهل فقد السوريون الرحمة؟ هل غادرهم الشعور الإنساني؟ هل فقدوا التعاطف مع إخوتهم؟ ما الذي فعلته هذه الحرب المجنونة؟ أم ليست هي من فعلت بل تاريخ من القهر والإذلال وتغييب التفكير والظلم وكم الأفواه وتأصيل الخوف في النفوس وكل ما مارسه الاستبداد السياسي وحلفاؤه من ديني واجتماعي أدى إلى هذه الفاجعة الكبيرة؟ فاجعة موت القيم، موت الرحمة، موت التفكير، موت كل ما يشي بحياة تليق بالإنسان؟ لقد كشفت الحرب عمق الشروخ في مجتمعاتنا، وتهتك نسيجها، وتجذر الأمراض في بنيتها. مثلما عرّت الأنظمة العربية التي ادعت وقوفها إلى جانب الشعب السوري، فإذا بهذا الشعب يُسام في داخل بلاده وخارجها، الأنظمة المستنسخة عن بعضها بمسميات مختلفة، أنظمة استبدادية قمعية أرعبها أن يكون هناك جنوح نحو الديموقراطية في أي بلد عربي، فضيقت الخناق على الشعب السوري وحاصرته واشتغلت على تدمير أحلامه وإجهاض انتفاضته وقتل طموحه، لقد أغلقت الحدود في وجه السوريين بعد النزوح الأول، عندما كان النزوح أداة يمكن استعمالها في اللعب السياسي، لكن الآن تبدلت قواعد اللعب وبدأت المراجعات وصار للأنظمة قول آخر وتدبير آخر بالنسبة للأزمة السورية، فما يهم أن يبقى مئات الآلاف في مرمى النيران أو تحت لهيب الشمس وسطوة الجوع والتشرد وفقدان الأمان والأمل، بل حتى فقدان القدرة على التفكير بحلول غير هذا السعير الذي يُصلون به؟

لست بصدد الدفاع عن سياسات الدول الأوروبية، فهذا حديث آخر، وهي ليست خارج قوسين مما يجري في بلادنا، لكنني أتحسر على بلداننا وواقعنا المهين والفاجع، واقع الخوف المتمكن من النفوس وغياب القدرة على التفكير، الخوف الذي يلجم الأفراد عن الإفصاح برأي أو موقف، الخوف من كلمة لا، الخوف من التفكير بما يحصل وإخضاعه للعقل والمنطق، الشلل والعجز عن تبني مواقف مهما كانت إنسانيتها ملحّة. كم يلزم السوريين من الوقت لتتعافى أرواحهم وتصفو نفوسهم وينطلق وعيهم فيصبحوا قادرين على تمثل الأهداف التي انتفضوا وتظاهروا ينادون بها، الحرية الديموقراطية العدالة وغيرها من القيم التي توفر أسباب العيش في وطن وبناء دولة لها هويتها الحضارية قادرة على أن تمنح شعبها حقوقه وتصون كرامته من دون تمييز؟