كيف يقرأ السلفيّون التراث؟

2020.06.09 | 00:00 دمشق

140_4.jpg
+A
حجم الخط
-A

تحدثتُ في مقال سابق عن القراءة العنصرية للتراث العربي التي تنكر "الحضارة العربية الإسلامية" عن طريق نفي صفة "العربية" عن أبرز علمائها ومفكريها، ثم انتقلت حديثاً إلى نفي صفة الإسلام عنهم. وقلتُ إنها قراءة انتقائية لا تاريخية، وبعيدة عن العلم ولو حاولت ادعاءه. وفي هذا المقال؛ سنجد أن القراءة السلفية للتراث قريبة جداً من القراءة العنصرية تلك، أي أنّ عُتاة اليمين المتطرّف من الغربيّين والمتغرّبين، ممّن يُوصَفون بأعداء الإسلام وكارهيه؛ هم الوجه الآخر لعُتاة الإسلام المتطرّف عندنا، ممّن يدّعون بأنهم أهلُ الإسلام وحملة لوائه.

في البداية أشير إلى أن عبارة "الحضارة العربية الإسلامية" تدلّ على اللغة السائدة في تلك الحضارة، وليس على الأصول العرقية لأبنائها، فالعرب بعضُهم وليس كلَّهم. كما أن صفة "إسلامية" تشير إلى الإسلام بوصفه دين الأكثرية من أبناء تلك الحضارة، وهي لا تحمل الدلالات الحديثة لمصطلح "إسلامي" الذي يعني الإسلام السياسي أو الأصولية الإسلامية. فالأصحّ أنّ نسمّيها "الحضارة العربية المسلمة"، والأكثر صحةّ "الحضارة العربية" فقط، نسبةً إلى اللغة العربية.

قد لا نختلف على أن السلفية انتقائية بطبيعتها، فهي تعني انتقاء سلَفٍ صالح والاقتداء بهم وبنهجهم، واستبعاد ملايين البشر الذين كانوا في عصرهم، وإقصاء آرائهم وأفعالهم. ومثلما ينتقي "خصوم الإسلام" حوادث معينة ونصوص وفتاوى محددة، لكي يقيموا بها الحجّة على أن الإسلام "متخلّف" و"معادٍ للإنسانية" و"غير قابل للحداثة"... فإن السلفيين يقومون بالشيء ذاته، فهم يختارون حوادث معينة ونصوصا وفتاوى محددة، ويعتبرونها تمثّل "الإسلام الصحيح" بل الإسلام كله. أي إنّ السلفيين -مثل العنصريين- يُنكرون التنوُّع الهائل داخل الإسلام الواحد، وهو التنوُّع الموجود في جميع الديانات والثقافات والحضارات، ويريدون بذلك أن يصبغوا حضارةً استمرت تسعة قرون بطابع واحد ولون واحد وصفة واحدة، وهذا التوصيف غير تاريخي وغير علمي، لأن التنوُّع والاختلاف هما الحالة الطبيعية للبشر.

إن القراءة السلفية قراءة لا تاريخية، فهي لا تنظر إلى الظواهر في سياقها التاريخي وباعتبارها استجابة لإرادة البشر وغاياتهم ومصالحهم

ثم إن القراءة السلفية قراءة لا تاريخية، فهي لا تنظر إلى الظواهر في سياقها التاريخي وباعتبارها استجابة لإرادة البشر وغاياتهم ومصالحهم. بل تنظر إلى الظواهر التاريخية نظرة ميتافيزيقية، فتقدّمها منفصلةً عن البشر الفاعلين بها، وعن الجغرافيا والسياسة والاقتصاد والاجتماع... فيصبح التاريخ كله عبارة عن معجزات غيبيّة أو كوارث وعقوبات نازلة من الغيب. وكأنّ الظاهرة الدينية هي التي تحرك البشر وتتحكم بهم، بدلاً من أن يكونوا هم المتحكمين بها بما لديهم من إرادة ومصالح وأهواء.

ومثلما تقدّم القراءة العنصرية صورة سوداء شاملة لتراثنا، فإنّ القراءة السلفية تخدع الناس عبرَ تقديمها لصورة مشرقة زاهية مثاليّة لعصور "الخلافات الإسلامية"، علماً أنها كانت عصوراً حافلة بالحروب الداخلية والصراعات المحلية، ومليئة بالظلم والاستبداد والاستغلال والإجرام. كما أنهم يغشّون الناس عند حديثهم عن وجود "نظام حكم إسلامي"، ينبغي لنا أخذُه أو استعادته. وهذا غيرُ صحيح كما أثبتَ علي عبد الرازق في "الإسلام وأصول الحكم"، فالإسلام لم ينصّ على إقامة دولة أو على نظام حكمٍ معيّن. وكذلك أثبتَ فرج فودة في "الحقيقة الغائبة" أنّ التاريخ الإسلامي شهد خمسة أو ستة طُرُق لانتقال السلطة، فأيُّ واحدة منها هي الطريقة الإسلامية؟

وفي واقع الحال، لم تكن "الخلافة الإسلامية" إسلاميّةً بالمعنى السلَفي الـمُبتَدع حديثاً للإسلام السياسي، فكتُبُ التاريخ المعتمدة لدى المسلمين، تتحدث عن جَوَارٍ وغلمانٍ وخمرٍ وغناءٍ ورقصٍ ولهوٍ ومجونٍ... في قصور الخلفاء، وفي بيوت مسلمي بغداد ودمشق ويثرب وقرطبة وغيرها. وفي ذلك العصر "المثالي"، كان فقهاءُ من وزن الشافعي وابن حنبل وأبي حنيفة يتعرّضون للسجن والتعذيب والقتل.

وبما أنّ العنصريين ينفون وجود "حضارة عربية إسلامية" عن طريق نفي صفة الإسلام عن أبرز فلاسفتها وعلمائها وأدبائها؛ فإنّ السلفيين يساعدونهم في تدعيم هذه الفرضية وتحقيقها، فهم يستبعدون كلَّ رأيٍ لا يتّفق مع فهمهم النقليّ الضيّق والمتشدد للإسلام، ويكفّرون صاحبه سواءً كان حيّاً أو ميّتاً.

وخلال جائحة الكورونا في الأشهر الأخيرة؛ أحسَّ العقلُ السلفي أنه خارج التاريخ وخارج العالم، فراح يبحث في الأدلة النقلية عما يثبت وجوده، وعن قشةٍ يتعلّق بها قبل الغرق. فالتجأ -تبعاً لقراءته الانتقائية للتراث- إلى بعض النصوص الدينية، وراح يعيدُ تأويلها تأويلاً مخالفاً للسياق والمعنى والمقصد، فقط لكي يقول للعالم: "نحن هنا! نحن موجودون! ولنا علاقة بما يحدث في العالم!". لكنّ أحداً منهم لم يذهب إلى كتب العلماء الحقيقين، أي علماء الطبّ والعلوم والوضعية.

والمفارقة هي أنّ عديداً من أطبّاء "الحضارة العربية الإسلامية" قد كتبوا عن الجوائح المشابهة للكورونا في كتبهم، ووضعوا نصائح ينبغي للناس الاقتداء بها في زمن الجائحة، وهي قريبة حقاً من النصائح التي قالها الأطباء في الأشهر الماضية، وذلك لأن المعرفة البشرية واحدة والعلم واحد. الملاحظة الأولى التي نقولها عن أولئك الأطباء، هي أنّ مصادرهم العلمية تبدأ من كتب أبقراط وجالينوس، لا من كتب الفقه والسنّة، فللعلم مجاله الوضعي التطبيقي وللدين مكانتُه القلبية الروحانيّة. أذكُرُ منهم أبا بكر الرازي في كتابيه "الرسالة الوبائية" و "المنصوريّ في الطب"، وابن سينا في شرحه لكتاب أبقراط "إبيديما"، وكذلك أستاذه ابن سهلٍ المسيحي في كتابه "رسالة في تحقيق أمر الوباء". ليس هذا فحسب، بل ثمة من وضع كتاباً عن الآثار الناجمة عن انتشار الجوائح، وهو المقريزي في كتاب "إغاثة الأمة لكشف الغمّة"، ويتحدّث فيه عن الآثار النفسية للجائحة، فهي تدفع البشر -نتيجةً للتوتّر والقلق- إلى التطرُّف في الأقوال والأفعال. كما تحدّث المقريزي عن الآثار الاقتصادية للجائحة، مثل احتكار السلع الذي يؤدّي إلى غلاء الأسعار، وجنوح الناس إلى تخبئة الذهب واستخدام العملات الأقلَّ منه قيمة، وهذا ما يُعرف حديثاً باسم قانون غريشام.

وهكذا نجد أن القراءة السلفية للتراث، بالإضافة إلى ما تتّصف به من انتقائية ولا تاريخية، هي قراءة معادية للعلم والعلماء، فحين تريد البحث عن معلومة طبية تذهب إلى كتب الفقه بدلاً من كتب الطبّ. وفي الغالب لم تبرزْ هذه القراءة السلفية وتتصدّر المشهد إلا في الخمسين سنةً الأخيرة، وذلك بفضل الفَوْرة النفطية والثورة الرقمية اللتين أنجبتَا عشراتِ الفضائيّات الدينية، المخصّصة لنشر المذهب السلفي الوهّابي بطلبٍ من الغرب، وبهدف صدّ المدّ الشيوعي والاشتراكي والقومي في المنطقة. وهذا ما يطمئن بأنّ الظاهرة السلفية طارئة وقائمة بقوّة المال فحسب، ولا بدّ أنْ يرفضها البشرُ بعد حين.

كلمات مفتاحية