كرة القدم.. انتقام البسطاء

2022.12.05 | 06:30 دمشق

كرة القدم.. انتقام البسطاء
+A
حجم الخط
-A

لربما تكون كرة القدم هي المساحة الوحيدة في هذا العالم الذي يسمح فيها للأحلام أن تتحقق، من دون تدخل ومؤامرات، إن أمكن، ولربما هي المكان الوحيد الذي يسقط فيه كبار هذا العالم ممن يتحكمون بنا، يفشلون بطريقة تضحك أصغر طفل في أفريقيا وآسيا، يسقطون من دون أن ينزفوا..

أثبت التاريخ أن حاجة الجموع البشرية لارتياد حلبات المصارعة هو أمر لا مناص منه، وهو تفريغ مثالي لجرعات العنف التي تغزو أجساد ملايين البشر، من الفقراء والأغنياء، وأحياناً قد تجتاحهم لدرجة الفناء، أو الانتحار..

لا تخلو أي دولة في العالم حتى ولو كانت منهارة أو فقيرة، من تلك الملاعب العملاقة التي تتسع لعشرات آلاف المشجعين من الأوفياء أو من الهواة لهذه اللعبة

لقد فعلها الرومان واليونانيون والصينيون، والمتوسطيون جميعاً.. التفريغ عبر تشجيع الآخر، والحلول بالخيبة أم بالفخر مكان الخاسر أو المنتصر على الترتيب، هو أمر يسعد الملايين.

انتقلت هذه الحالة حتى وصلتنا مع أكثر لعبة جماهيرية وشعبية في العالم المعاصر وربما في تاريخ البشرية جمعاء، بحيث لا تخلو أي دولة في العالم حتى ولو كانت منهارة أو فقيرة، من تلك الملاعب العملاقة التي تتسع لعشرات آلاف المشجعين من الأوفياء أو من الهواة لهذه اللعبة، التي لربما لو تمت مقارنتها مع الآثار الضخمة التي تركتها الحضارات السابقة مثل كوليسيوم روما ومسارح سبراطة وبصرى وجرش وآرل وكريت.. لبدت هزيلة أمام حجم الضخامة والاتساع المتاح للترويج لهذه اللعبة.

من حسن حظنا أن كيوبيد هذه اللعبة قد أخطأ في سهامه شعوباً وأصاب شعوباً أخرى، ولكن وبمعنى آخر فهو قد أرخى سحائب الحب على شعوب البسطاء من أميركا الجنوبية وآسيا وأفريقيا وحتى أوروبا، متفادياً الولايات المتحدة و روسيا والصين، فتلك دول وهبها الله كل شيء، إلا كرة القدم، حيث يمكن لأي فريق في العالم أن يحلم بهزيمة هذه الفرق الثلاثة هزيمة مدوية، وهذا بالفعل ما حصل عدة مرات، وأشفى صدور دول العالم الثالث والثاني ربما. حيث يمكن لفريق متواضع مثل الفريق السوري أن يهزم فريق دولة بحجم الصين، ولفريق دولة بحجم ويلز أن يهزم أميركا ومثل هذا فعلت كرواتيا مع الروس.

في كرة القدم يتحد الخيال بالفقر، والخيال درجات مثل الفقر، حيث إن الأخير ليس فقط حاجةً للنقود، مثلما أن الأول ليس أحلام يقظة.. واتحاد هذين المكونين يخلق العجائب، فتاريخ مزاوجة الفقر مع الخيال أنجب كبار الشعراء وبضعة أنبياء كانوا يسوقون خرافهم في مراعي البسيطة، حينما تولدت بعض من أجمل قصص هذه الدنيا.

وكذا هي الأمم، تحتاج على الدوام إلى أحلام جماعية، تتحقق وتُشاهد جماعياً، من أجل نوع خاص من النشوة الجماعية التي لا تدرك إلا في مرات قليلة، إن خيبات الأمم وركودها ومللها، قد يكسره وهم النصر في الملاعب، وقد تقوم كرة القدم بجبر خاطر وقلب أمة مكسورة، مهزومة، ممزقة.. لا تزال تعتاش على الخيال والحلم، وعلى العكس قد تفتت ضمير ذات الأمة، فأول مرة انتعش الأمل الوطني والحس القومي لدى الشعب الألماني الحزين، بعد دمار الحرب العالمية الثانية، كانت حينما حاز فريقه كأس العالم في 1954، أي بعد تسع سنوات فقط من نهاية الحرب، التي قضت على البلاد شعباً وأرضاً وروحاً.. مثل هذا قد حدث مع الأرجنتين بعد انقلاب الجنرال فيديلا، عام 1976، على الرئيسة المنتخبة ايزابيل بيرون.. حيث أدخل العسكر البلاد في متاهات تقييد الحريات والاعتقال والاضطرابات والتعذيب والحزن الدائم.. فانخفضت العملة وزاد الفقر والتضخم.. مما أدى إلى ازدياد الاضطرابات والتظاهرات فتم قتل المتظاهرين وإلقاء جثثهم في البحر.. فبدأ الدكتاتور الأرجنتيني بالاستدانة من صندوق النقد الدولي ليتجنب سقوط البلاد والإفلاس الكامل، فتضاعف الدين الخارجي 5 مرات، في سنوات قليلة..

حينها أتاح الحظ أو المصادفة، أو ربما المؤامرة الدولية الفرصة للأرجنتين لتنظيم كأس العالم 1978، رغم كل ظروفها الصعبة وحالة الإحباط الكبيرة التي أصيب بها الشعب، حيث فازت الأرجنتين بتلك الكأس في تلك الدورة، فانتعش الحلم من جديد، حتى تم إقصاء الدكتاتور فيديلا ذاته الذي نظّم كأس العالم في بلاده، وانتقلت البلاد إلى الديمقراطية..

ترتفع أعلام الشعوب المقهورة على المدرجات، بين أعلام الدول المشاركة في المونديال، وكأن هؤلاء يقولون إن بلادنا هنا، هي موجودة حتى لو لم تلعب معكم، أو تتطور مثلكم

حصل هذا الأمر أيضاً مع العراق في كأس آسيا، ومع البرازيل في كأس العالم، والكثير الكثير من القصص التي لا تنتهي، من أفراح دخلت إلى قلوب الشعوب بفضل كرة القدم، وأحزان دخلت إلى أكباد الشعوب أيضاً بفضل ذات اللعبة، كما حصل في الحرب الشهيرة بين الهندوراس وسلفادور، في تصفيات كأس العالم، حينما اشتعلت الحرب بين البلدين بسبب مباراتي الذهاب والإياب بين الجارين العدوين، حيث لعبت السلفادور مباراة الذهاب وانتصرت، فتم الاعتداء على الجمهور و الجالية الهندوراسية، وحصل أمر مماثل في مباراة الإياب، حيث قتل المشجعون وحرقت أحياء المهاجرين فرحاً بالانتقام.. فاندلعت الحرب على الفور.

في خضم كل هذا التسييس، ترتفع أعلام الشعوب المقهورة على المدرجات، بين أعلام الدول المشاركة في المونديال، وكأن هؤلاء يقولون إن بلادنا هنا، هي موجودة حتى لو لم تلعب معكم، أو تتطور مثلكم، أو تدخل خارطة كرة القدم معكم.. علم واحد قد يفرح شعباً، وراية واحدة يرفعها رجل هارب من القوانين في عرض الملعب فوقها راية فلسطين أو سوريا التي يراد لنا أن ننساهما، تفرح الملايين..

ملاعب كرة القدم باتت للأثرياء اليوم، لاعبون بملايين الدولارات، بطاقات حضور بمئات الدولارات، مشاهدة المباريات باشتراكات تلفزيونية، كل شيء فيها دخل فيه الرأسمال، ولكنها بقيت في زواياها ملكاً للفقراء الحالمين، يتمثلون نجومها وأبطالها.. وليس أبطال الحروب الأميركية والروسية والصينية..

فيا للبؤس لو تخيلنا أن نهائي كأس العالم قد أصبح بين روسيا والولايات المتحدة، تخيلوا بؤس هذا العالم وقبحه.. وحجم المزايدات التي ستندلع في كل أنحاء العالم بين الطرفين..

من أجل هذا تبقى كرة القدم، مكاناً لتفريغ أحلام البسطاء، ولتحقيق هذه الأحلام يوماً ما.. ضد طغاة هذا العصر.