هل هنالك صناعة دراما سورية؟

2024.03.30 | 05:17 دمشق

آخر تحديث: 30.03.2024 | 05:17 دمشق

هل هنالك صناعة دراما سورية؟
+A
حجم الخط
-A

مع دخولنا في الموسم الرمضاني السنوي، الذي يتم فيه استعراض الأعمال التلفزيونية العربية في سوق الفضائيات العربي، يتجدد فيه الحديث بالتفصيل عما يسميه البعض بالصناعة الدرامية السورية التي يحلو للبعض تسميتها بمفخرة الصناعة السورية، والتي يتم تحميل أعباء الفشل الإداري السوري عليها، علهّا تغسل القليل من وطأة الإحباط المنتشر لدى المواطن السوري، على جميع الأصعدة، فكم هو سعيد ذلك المواطن الذي يتم توقيفه في المطارات أو عبر الحدود الدولية، ويتم استجوابه خارجاً من بلده أو داخلاً، موسوماً بصفة اللاجئ، التي لا تزال تثير حساسية السوري في كل مكان، كم سيكون سعيداً حينما يشاهد المواطنين العرب يحتفون بأعمال تلفزيونية تتحدث بلهجته، وممثلين يقصون "حواديت عن بلده"، إنه حقاً بالنسبة إليه أمر يثير غريزة القومية والانتساب، أو الانتماء إلى جماعة أو مجموعة لا تزال قادرة على إثارة الإعجاب بأي شيء، حتى لو كان فنياً ولا ينعكس عليه بشكل مباشر، سوى على صعيد القص والسرد، والإيهام الفني.

مثل ذلك الألماني حينما يفتخر بشركات السيارات العابرة للقارات، أو البرازيلي الذي يفتخر بمنتخب كرة القدم، أو الإيطالي الذي يفتخر بالبيتزا والباستا، أو الفرنسي الذي يرفع رأسه عالياً بالآداب والفنون الفرنسية.

فليس للسوري المعاصر سوى الدراما التلفزيونية كي يفتخر بها بعد دمار البلاد، وتفكك المجتمع والاقتصاد والثقافة، وتناثر المهن والصنائع في كل بقاع الأرض، لا شيء يثير نزعة الانتماء سوى "الدراما" أو التاريخ وآثار الأوليين ومفاخرهم مثل آثار تدمر وأفاميا وأوغاريت. وهو أمر تململت منه أجيال التسعينات والألفية.

إذاً ما هي "صناعة الدراما" في سوريا وهل هي حقاً موجودة؟ وهل يحق للسوري أن يفتخر بها؟

بكل تأكيد سوريا هي بلد متميز جداً في مجال الفنون، ولقد أثبتت نفسها عبر قرن فائت مائج بالتغييرات الثقافية والسياسية، واستطاع شعبها إنتاج عشرات الشعراء والأدباء الذين يضاهون نظراءهم في العالم، من وضعوا اسمها في مصافي أهم الأدباء والشعراء العرب، وبالتأكيد كان للمسرحيين والسينمائيين فيها حصتهم من العمل والإبداع، وأكاد أجزم أن الأدب السوري (رواية وشعر ونثر ومسرح) قد أنتج أعمالاً خالدة، قد لا تكون رابحة تجارياً ولكنها إن توبعت وأزيل عنها الغبار بعد مئات السنوات لاستطاعت البقاء والصمود.

ظهرت كلمة (مثقف) غالباً في المسلسلات لتعبر عن الشخص المعقد والمنفصل عن الواقع، ولا أظن هذا الأمر جاء بمحض مصادفة، وإنما كان ضمن سياق لإبعاد المواطن عن المثقف الحقيقي

ولكن كل ذلك لم يعد كافياً بالنسبة للتغييرات الثقافية والإنسانية، لأن أغلب هذه الأعمال لم تستطع الوصول إلى شرائح واسعة لدى الجمهور السوري قبل العربي، حيث إن التحولات الاجتماعية وسياسات الإفقار الثقافي، وتحالف السيطرة الإيديولوجية من جهة، والدينية من جهة أخرى على المجتمع حرما المواطن العادي من التواصل مع الأدباء الحقيقيين والشعراء المهمومين بقضايا الشارع، بل كان هنالك سخرية دائمة منهم عبر الأعمال التلفزيونية، حيث ظهرت كلمة (مثقف) غالباً في المسلسلات لتعبر عن الشخص المعقد والمنفصل عن الواقع، ولا أظن هذا الأمر جاء بمحض مصادفة، وإنما كان ضمن سياق لإبعاد المواطن عن المثقف الحقيقي، واستبداله بوسيط أشد ليونة، ومرونة، تجاه القضايا الكبرى، هو الوسيط التلفزيوني، لذلك انتهت الفلسفة في سوريا، وقضي على فكرة المثقف المعلم وسط مريديه، وانتهت الصحافة الثقافية، واندثر النقد الحقيقي، وسط أكوام من التطبيل والتزمير والإعجاب بأي شيء يقدم عبر الجهاز الأثير للسياسات الإيديولوجية. وهو التلفزيون، الذي بات متحكماً بالمواطن وبالوطن.

طبعاً ليس من باب المصادفة أن تاريخ الانقلابات في سوريا كان يبدأ على الدوام بوضع الدبابات على بوابة الإذاعة أو التلفزيون. فالانقلابي يعلم على الدوام بأن التحكم بالتلفزيون يعني وصوله إلى الناس بأسرع وقت، عبر المنفذ الوحيد المباشر بين الدولة والمواطن.

اليوم تبدل الحال، وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي هي سراديب خاصة وسرية يتصل بها المواطنون ببعضهم البعض، دون الحاجة إلى المرور عبر وسيط حكومي.

لكن الدراما التلفزيونية بقيت أثيرة القلوب، بسبب حاجة البشر عبر التاريخ لنعمة السرد والقص، والإيهام والتطهير، الحاجة إلى سماع قصص عن الآخر الذي يشبهنا.

لذلك بقيت الدراما طريدة السياسات، وأدرك الساسة ضرورة عدم تركها فريسة للآخر، عبر توجيهها وقوننتها، وهذا دائماً ما يتنافى مع حرية الفن والفكر.

إن تحكم رأس المال بالعملية الدرامية، وليس الصناعة الدرامية، هو أمر واضح ولا جدال فيه، ويمكننا القول بكل تأكيد بأن ما لدينا في سوريا ليس صناعة دراما، بل عملية إنتاج موسمية، فالصناعة تعني وجود مؤسسات وبنية تحتية وتراكمية وقوانين والأهم قوانين خاصة تلزم حقوق الملكية الفكرية، الصناعة ليست ضخ الكثير من الأموال من الخارج لإنتاج أعمال تلفزيونية، الصناعة تعني دورة صناعية كاملة، حاجة وضرورة، تبدأ من المشاهد الذي يطلع على العمل، ويمتلك حرية مشاهدة هذا العمل أو ذاك، لا إجباره على مشاهدة الأعمال المعروضة على القنوات المفتوحة فقط، فإن كان المشاهد يمتلك قدرة اختيار المسلسل الأفضل، فهو سينتقل إلى المسلسل الأفضل وسيرفض المسلسل السيئ فنياً، وهذا لا يحدث لدينا، حيث لا نسب مشاهدة شفافة ودقيقة تعكس حجم المشاهدات الوطنية للمسلسلات التي يتابعها الشعب، كما يحدث في المؤسسات الكبرى في العالم عبر تحديد نسب المشاهدة عبر الكايبل، بل ما يوجد لدينا هو انعكاس لهذه المشاهدات عبر السوشيال ميديا التي يمكن التحكم بها عبر ضبط عشرات الصفحات الفنية فيها والترويج عبر الدفع المالي، وهي أمور شائعة جداً في الشرق الأوسط استخدمت كثيراً في الحملات السياسية والرياضية والاقتصادية، فيما تعارف عليه بالذباب الإلكتروني.

أما الخطوة الثانية فهي المعلن الذي يمكن له اختيار المسلسل الأفضل ليضع إعلانه فيه، حيث لا يملك المعلن المحلي أو الصناعي أو المروج التجاري إن وجد، أية رفاهية للاختيار وذلك لأن الإعلان مسيطر عليه من قبل الحكومة التي تمسك بشكل كامل لا ريب فيه بالأقنية التلفزيونية، حيث لا وجود لأية قناة تلفزيونية سورية خاصة على الإطلاق، وبالتالي فإن الصناعي وأكرر إن وجد، لا تفضيلات لديه، وإنما إن أحب أن يقوم بالإعلان عن منتجه فهو سيقوم بالدفع فقط وهنالك أحد آخر سيختار كيفية وآلية عرض إعلاناته.

حتى نصل إلى المنتج الذي لا يمكن له أن يقوم بإنتاج ما يريده بسبب عدم ضمانه تسويق منتجه إن كان يحتوي في طياته أية مغامرة ثقافية أو فنية قد تمنع عرضه على الأقنية والتلفزيونات.

أما الحديث عن بنية تحتية فهو أمر مثير للضحك، حيث لا استديوهات للإنتاج أو مرافق كبرى يمكنها خلق عوالم خاصة ومختلفة لكل عمل، هنالك فقط البلد نفسها، بشوارعها وشققها وأماكنها العامة التي تم الاستفادة منها كاستديوهات مفتوحة ومجانية للأعمال التلفزيونية، حيث يستفيد المنتح من شبكة علاقاته مع الحكومة من أجل استخدام المرافق العامة، الشوارع والبيوت العربية أو الثكنات أو أي مرفق يتيح له التصوير بأقل مدفوعات ممكنة، وهو أمر يمكن ملاحظته بسهولة في تيترات المسلسلات عبر توجيه الشكر لعشرات الوزارات والمرافق الحكومية، التي تسهم مجاناً بالإنتاج. وهو بالطبع دعم غير مجاني، يتم قبض ثمنه بشكل أو بآخر.

لا وجود لأي شكل من حقوق الملكية الفكرية التي تحمي المؤلف الذي تتكئ عليه العملية الفنية برمتها، ولا تأمينات صحية أو اجتماعية لجيوش العاملين في الدراما، وغالباً لا صكوك أو عقود تؤسس لهذا العمل

وبالطبع لا نقابات تحمي الفنيين وعمال المهن التلفزيونية، ولا ضمانات رسمية تشجع على إبداعهم، حيث تقوم العملية برمتها على شبكة علاقات، لا تتيح للأفضل البقاء وإنما هنالك على الدوام تكتلات تدور على ذاتها بشكل دائم. دون الحديث عن الفروق الهائلة في الأجور بين الممثلين وبين الفنيين الذين يعملون أضعاف الوقت الذي يقوم به أقل ممثل، وبالطبع لا وجود لأي شكل من حقوق الملكية الفكرية التي تحمي المؤلف الذي تتكئ عليه العملية الفنية برمتها، ولا تأمينات صحية أو اجتماعية لجيوش العاملين في الدراما، وغالباً لا صكوك أو عقود تؤسس لهذا العمل، الذي غالباً ما يتم تمريره على مبدأ المشافهة والمياومة.

الصناعة الدرامية لا تعني خروج الممثل مبتسماً على الشاشة فقط، وإنما تعكس جهود العشرات بل المئات من العاملين على هذه الصناعة، التي لم تتمأسس أبداً في بلادنا، وبكل تأكيد يمكن الاستماع سنوياً إلى قصص الخلافات حول حقوق الملكية الفكرية، والصراع فيما بين الفنيين، في ظل غياب نقابي شامل.

الصناعة الدرامية تبدأ من المعمل وتنتهي على طاولة المشتري، وفي حالتنا السورية التي تعكس غياباً للأقنية التلفزيونية الخاصة أو شبه الخاصة، التي تؤسس لحماية المنتج التلفزيوني، لا وجود ولا قيمة للمنتج ذاته حيث منافذ التوزيع متحكم بها من قبل الغير.

إن نجاح الدراما السورية نابع من محبة المواطن العربي للثقافة السورية عموماً، ولاختلاف التفاصيل السورية عن مثيلاتها العربية، وبالتحديد الدراما التاريخية، التي برع المبدعون السوريون بها عبر نصف قرن من العمل، إن إفقار بقية الفنون الأخرى وتهميشها في سوريا أدى إلى استفادة الدراما التلفزيونية التي تعني الأجر الأعلى مادياً بالمقارنة مع بقية الفنون مثل المسرح والسينما والأدب، كما أدى إلى استفادة الدراما من مواهب عظيمة انتقلت تلقائياً من ضفة هذه الفنون العظيمة لتصب في مصلحة العمل التلفزيوني، من مسرح وسينما وفن تشكيلي وموسيقا وتصوير وديكور، وهذا بمجمله أدى إلى ارتفاع قيمة العمل التلفزيوني كفن، قبل أن ترتفع قيمتها كأداة تسلية. ولكن هذا بكل تأكيد لم يمنحها صفة الصناعة، لأن الصناعة ببساطة تحتاج إلى مأسسة وحرية وقانون يحميها وقضاء عادل يحيط بها وبجميع العاملين فيها، ويتيح لها العمل اعتماداً على السوق المحلية قبل السوق العربي أو العالمي، ونضرب مثالاً عن الدراما التركية أو الكورية التي تشهد نهضة عظيمة، تستند إلى العشرات من المحطات التلفزيونية المتنافسة على رضا المشاهد التركي أو الكوري، قبل تصدير العمل للمشاهد الآخر الذي يعتبر في هذه الحالة قيمة مضافة للعمل وليس هدفاً أولياً.

في حالتنا السورية فإن رضا العميل أو رضا المشاهد السوري هو آخر بند لدى منتجي الدراما السورية، حيث لا قيمة لرأيه بطبيعة الحال، فعلى سبيل المثال تزدهر الأعمال الكوميدية عادة في فترة المنعطفات التاريخية التي تشهدها الأمم، وأثبتت وثائق اليوتيوب من تعداد المشاهدات أن المواطن السوري يفضل الأعمال الكوميدية، ولكن في الموسم الحالي لا يوجد ولا حتى عمل واحد، حيث يفرض على المشاهد مجموعة الأعمال التي تم الاتفاق عليها مع رأس المال الذي يدفع ثمن تمويل المسلسل. بكل ما يتضمنه من قيم وأفكار وأخطاء سواء راقت للمشاهد السوري أم لم ترقه، فهذا غير مهم، أما عملية بناء نجم أو الإعجاب به فهي أمر غير ذي قيمة، فنجم اليوم قد يصبح نجم الأمس إن خرج من شبكة العلاقات الآمنة.

الحديث عن صناعة تلفزيونية ناجحة تشكل دائرة كاملة وناجحة هو أمر مبالغ فيه على الطريقة السورية، فالصناعة أمر آخر مختلف عما يقوم به الفنانون السوريون المجتمعون في باحة الدراما التلفزيونية.