في ذكوريّة السُلطة

2019.11.10 | 17:01 دمشق

0acc5c54144073346e7d0971.jpg
+A
حجم الخط
-A

أعادت الدراساتُ الثقافية الحديثة كدراساتِ الجنس والجندر والعِرق والإثنية، ومعها دراساتُ ما بعد الكولونيالية؛ بناءَ مفهوماتٍ لطالما اعتُبرتْ راسخةً ومسلّماً بها، بدءاً من تشكُّل الهُوية الجنسية وارتباطه بشروط الأُسْرة والجماعة والتشكيلة الاقتصادية - الاجتماعية، إلى تشكُّل الهُوية الوطنية وارتباطه بالظروف السياسية الداخلية والخارجية في حقبة تاريخية معينة، كحقبة الاستعمار أو تصفية الاستعمار مثلاً. وليس انتهاءً بمحاولة تعريف السلطة وآليات عملها، واعتبارها المحرّك المركزي لمجموعة من العلاقات والسَّيرورات الـمُنطلِقة من نقاطٍ لا حدَّ لها، والـمُشتبِكة مع بعضها بعضاً، لتنتجَ تمثُّلاتٍ ومفاعيلَ لا حدَّ لها أيضاً. فالسلطةُ موجودة في كلّ مكانٍ وغيرُ موجودة في مكانٍ محدّد في الوقت ذاته، كما يقول فوكو، والسلطة لعبةٌ متحرّكة تؤدي دائماً إلى غلبة طرفٍ على حساب طرفٍ آخر.

لم يكن موضوع الجنس غائباً عن قواعد تنظيم الأسرة والجماعة البشرية، ولا عن قواعد تنظيم العمل والإنتاج، وكذلك تنظيم المجتمع سياسياً وقانونياً ودينياً. بل يمكن القول -دون مبالغةٍ كبيرة- إنّ للجنس ووظيفة الإنجاب الدورُ المحرّك الرئيس وراء ذلك.

ونُذكّر أنّ للذكورة وللأنوثة صفاتٍ متمايزة في مجتمعاتنا، وهي مجتمعات متخلّفة اقتصادياً إذ ما زالتْ في طَور المشاريع الفردية ريفياً، وطَور الحِرَفيّة والبورجوازية (الطُّفيليّة) مدينياً. وهي مجتمعات عانتْ من الاحتلال والاستعمار والاستبداد لسنين طويلة، إلى أنْ صارت مفتَّتةً واقعياً ومعرفيّاً بين ماضٍ أقربَ إلى الفردوس المفقود، وحاضرٍ ومستقبلٍ أقربَ إلى الجحيم. في هذه المجتمعات ترتبط الذكورة (أو "الرجولة") بالقوّة والمعرفة والسلطة والغنى والنفوذ... إلخ، بينما تُلقى الصفات الأنثوية على كل مَن لا يملك ذلك، أي على الضعيف والجاهل والفقير وقليل الحيلة، وعلى مَن يخرجُ على العُرف الأُسري أو القَبَلي أو المجتمعي.  فبينما بلغتْ معظمُ "المجتمعات الغربية" مرحلةً ما عاد فيها لشكل الملابس أو طُول الشَعر علاقةٌ بإضفاء الصفات الذكورية أو الأنثوية على الأفراد، وغدت الجنسيّة المثليّة مشروعةً في القانون؛ ما زالت جُلّ هذه الأمور وغيرها تُعتبر من المحدِّدات الأساسيّة للهُوية الجنسية في مجتمعاتنا.

لقد ساهم الاستشراق الأوروبي في رسم صورة نمطية عن "المرأة الشرقية" فقدّمها في صورة الأنثى الشهوانية التي لا تتردّد لحظةً في خيانة زوجها أو مالكها

لقد ساهم الاستشراق الأوروبي في رسم صورة نمطية عن "المرأة الشرقية"، فقدّمها في صورة الأنثى الشهوانية التي لا تتردّد لحظةً في خيانة زوجها أو مالكها، ورسَمَ صورةً متخيّلةً لحياةٍ جنسية عجيبة تسكُن في هذا "الشرق" العجيب، وتختبئُ خلف ستائِره وملاءَاتِه. ولا أُفسّرُ ذلك كلَّهُ بالبغضاء أو بغرض تبرير الاستعمار فحسب، بل هي في الأصل طريقةٌ لتعريف الذات عن طريق تعريف الآخر، فبما أن "المرأة الشرقية" هي كذا وكذا... فإن "المرأة الغربية" هي نقيضُها، أي هي "عفيفة" و "لا تخون". تدفعنا هذه التصوُّرات إلى إعادة النظر في مجتمعاتنا المحلية، وفي نظرة كل مدينة أو قرية أو جماعة إثنية أو مذهبية تجاه الأخرى، والنظر في كيفية تعريف كلّ واحدةٍ منها لذاتها عن طريق تعريف الآخر. فعندما تكون جماعتان بشريّتان في حالة تنافسٍ اقتصادي أو سياسي أو ثقافي - غالباً ما تكونان متجاوِرَتين جغرافياً - تبدأ كلُّ واحدةٍ منهما برسم صورةٍ عن الآخر، صورةٍ تحقّقُ غايةَ الراسم من دون الاهتمام كثيراً بمدى صحّتها أو مطابقتها للواقع. فعلى سبيل المثال، قد يُوصَف رجالُ المنطقة الخصم بأنهم ضِعافٌ وجبناءُ ولا يغارون على نسائهم، وتُحاكُ حولهم نكاتٌ وحكاياتٌ تدعم هذه الفرضية. وقد تُوصَف نساؤهم بأنهنَّ شهوانيّات ومستعدّات لملاقاة الغرباء.

استخدم النظامُ الدعاية الجنسية في أبشع صورها تجاه الثائرين عليه وعائلاتهم وبيئاتهم

منذ بداية الاحتجاجات في سوريا في آذار 2011، استخدم نظام الأسد آلته الإعلامية الضخمة لمواجهتها، فوصفَ المتظاهرين في البداية بتوصيفاتٍ مُتناقضة ومضحكة، فهُم مرةً "مندسُّون" وتارةً "موتورون" وطوراً "مخرّبون"، وهم عملاء لكلّ المعمورة، قبل الاستقرار على تسمية "الجماعات الإرهابية المسلحة". وخلال جميع المراحل، استخدم النظامُ الدعاية الجنسية في أبشع صورها تجاه الثائرين عليه وعائلاتهم وبيئاتهم. فالـمُعارِضاتُ من النساء اتُّهمنَ في أخلاقهنَّ بكلّ سهولة، أما الرجال فاتُّهموا ببيع نسائهم للمقاتلين الأجانب، وكذلك بالسِّفاح مع بناتهم (أمتنعُ عن ذكر الأمثلة لكيلا أُساهم في نشر الدعاية ذاتها). ولم تكن حكاية "جهاد النكاح" سوى واحدةٍ من أبشع أساليب تشويه الآخر، وبغرض الإيحاء بأنّ هنالك حياةً جنسيّة عجيبة تقبعُ في تلك المناطق اللامعقولة. بعد ذلك ظهرَ ما يُسمّى "البيئات الحاضنة للإرهاب"، وهو توصيف عنصريّ استعماريّ استشراقي، فالمستشرِق المحليّ الـمُنكفِئ إلى مواقع الغرب الاستعماري، يحلُو له التنكّرُ بقناع التحضُّر والعلمانية وحماية الأقليّات، في مقابل وصف خصومه بالهمجيّة والتوحُّش والإرهاب، وتحديداً "الإرهاب الإسلامي" باعتباره البضاعة الرائجة اليوم.

بالتزامن مع ذلك كلّه، كان اغتصابُ الرجال والنساء يجري على قدمٍ وساقٍ في المعتقلات. والاغتصابُ في الحروب فعلٌ عسكري- سياسي أكثر مما هو جنسي، يهدف إلى طعن الناس في كرامتهم، وخلط الأنساب عنوةً، وتمثيل علاقة السلطة مع المحكومين (أو الـمُنتصِر مع المهزومين) تمثيلاً حقيقياً. 

نضع كلّ ما سبق في الذهن عند النظر في ظاهرة مثل جماعة "القُبيسيّات"، وهي تبدو واحدة من الجماعات الدينية التي نشأتْ وعملتْ تحت رعاية الأجهزة الأمنية، بينما يقولُ آخرون إنها كانت جماعة "سرّية" و"محظورة". وفي كل حال، باتَ لهذه الجماعة دورٌ ملحوظ بعد عام 2006 إذ صار نشاطها علنياً. ثم دورٌ أكبر بعد ثورة آذار 2011، بالتزامن مع تراجع جماعات دينية أُخرى مثل "جماعة كفتارو" و"جماعة البوطي" بموت المؤسِّسَين، و"جماعة الرفاعي" بعد خروجه من البلاد وملاحقة أتباعه. وتبدو المهمّة الموكلة إلى هذه الجماعة هي أن تمثّل دور "الإسلام المعتدل" في مقابل إسلام الثائرين الموصُوف بـ "المتطرّف" و"السلفيّ" و"الوهّابي" و"الإرهابي". كما استُخدمت الجماعة كـ "قوة ناعمة" أو "قناع أنثوي" يُخفي من تحته وجهَ النظام الذكوريّ المتوحّش. بعد ذلك، صار ظهورُ "القبيسيّات" المتكرر في الإعلام، ولقاؤهنّ مع كبار المسؤولين، واتّساع دورهنّ السياسي والاجتماعي؛ يثيرُ غضب الموالين للنظام، لا سيّما أولئك المخدوعين بـ"علمانيّته".

وبالعودة إلى بداية الاحتجاجات، فلم يكن اعتقال الأمن السُّوري للطفل حمزة الخطيب (13 عاماً)، وقتله تحت التعذيب مع بتر عضوه الذكريّ، ثم تسليمه إلى أهله لكي يَرَوا ويَرَى العالم ذلك؛ حدثاً اعتباطياً أو تجاوزاً فردياً، إذ تكرّرت الحادثةُ ذاتُها مع عشرات المعتقلين الشباب ممَّن قضَوا تحت التعذيب. لقد كانت رسالة النظام واضحة منذ البداية، ومفادُها أنّ أي تمرّدٍ عليه سوف يُجابه بالإخصاء المباشر أو غير المباشر، وأنّ للذكورة تمثُّلاً واحداً ووحيداً ينحصر في السلطة، وأنّ أيَّ محاولةٍ لإظهار الذكورة أو الرجولة من قِبَل أيٍّ كان؛ سيكون مصيرُها الإخصاء. وهو ما يعني -رمزياً- العودة إلى الزمن السابق، زمن ما قبل الثورة بعلاقاته السياسية-الجنسية، والتي تكفل سيادةَ طرفٍ فاعلٍ على طرفٍ مفعولٍ به.

من هنا نُقارب دعم النظام لـ "القبيسيّات" في سنواتِ الحرب، وكثرة ظهورهنّ إلى جانب المسؤولين، وقد يتّسع دُورهنّ الاجتماعي أكثر. إذ يريد النظامُ عبرَ خطابه المنطوق والمسكوت، وبما يحتويه الخطابُ من عناصر واعية وأُخرى لا واعية، أنْ يقول للسوريين في الداخل والخارج، وبالأخصّ لذوي الميول الإسلامية ممَّن يعتبرُهم خصومَه أو "نقيضَه"؛ بأنه مسموحٌ لكم أن تعيشوا في سوريا، وأن تمارسوا تديُّنكم وشعائره، بل أنْ تلعبوا دوراً اجتماعياً و"سياسياً"، بشرط أنْ تكونوا نساءً فقط، أي أنْ تكونوا الطرف الأدنى في العلاقة مع السلطة وأهلها، الطرفَ المفعول به سياسياً واقتصادياً وثقافياً... إلخ، وجنسياً كتحصيل حاصل.

قد يكون من الضروري الإشارةُ إلى النساء هُنَّ الطرف الأدنى في علاقة الحاكم والمحكوم من منظور السلطة، وهو منظور ذكوريّ استعماريّ مُستبدّ، أدواتُهُ التمييز الجنسي والعنصريّ والطائفي. وليس من منظور كاتب هذا المقال.