عيش السوريين في "المؤقت"

2019.11.19 | 17:25 دمشق

gettyimages-160381916.jpg
+A
حجم الخط
-A

يولد الإنسان، ينمو، يكبر، تبدأ عنده الأسئلة، وأولها سؤال المصير مع بداية تشكل وعيه، وربما يبدأ معه القلق منذ أن يعي فكرة الموت، الفكرة التي تستبطن النفوس وتعيش في الظل بالتوازي مع الحياة، فيشرع في رحلة النضال ضد الموت مستثمرًا عمره في سعيه لأن ينجز انتصاراته في الحياة. يتعلم، يعمل، يحصّل المال من أجل أن يعيش ويشكل أسرة، ينجب، يربي، يسعى لتأمين مستقبل لأولاده، يحلم بأن يزوجهم، وأن يكون لديه أحفاد يكحل عينيه بمرآهم قبل أن يموت، ينسج الأحلام والطموحات طالما هو على قيد الحياة، وطالما هو كذلك فلديه الأمل بالغد ويسعى إلى تحقيق آماله. هذه هي حياة البشر بشكل بسيط وموجز عندما يعيش الإنسان بشكل عادي. لكنّ العمر أكثره قليل، هذه حقيقة يشعر بها الإنسان، وعلى وجه الخصوص عندما يستهلك نصف عمره المقدر ويبدأ بالاقتراب من النهايات، كلما اقترب أكثر شعر بأن سباقه مع الزمن لم يعد يجدي وهناك الكثير مما كان يأمل أن ينجزه، والكثير من الأحلام، والكثير من المهام، لكن العمر قصير. هذا لو اعتبرنا أن الفرد عاش العمر الوسطي المقدر للإنسان، الذي يختلف معدله بين منطقة وأخرى وبين شعب وآخر. وإذا افترضنا أن الإحصاءات حول معدل حياة الفرد السوري دقيقة، وهو يعادل سبعين عامًا، فماذا فعلت الحرب، ليس بمتوسط أعمار السوريين، بل بأعمارهم ومستقبلهم؟

أوشك الشعب السوري على أن يتم تسعة أعوام من الصعب تصنيفها، تسعة أعوام لم

معظم السوريين يشتركون بيتًا بيتًا في أمور عديدة، منها مثلاً الفجوة الزمنية التي أحدثتها ظروف الحرب ومخلفاتها في حياتهم وما يمكن أن يترتب على هذه الفجوة.

تبقَ فيها أسرة سورية لم تتأثر بالحرب والخراب المتغول في حياتهم، فإذا كانت الحرب عمّت البلاد من شرقها إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها، ففعلت ما لم يكن يخطر على بال أي من السوريين، بالرغم مما كان يعاني كثيرون منهم، فإن الهزات الارتدادية دخلت كل البيوت وصدّعت ما استطاعت إليه سبيلا.

الشيطان لا يختبئ في التفاصيل، كما شاع قول أصبح قاعدة معرفية وسلوكية عند كثيرين، بل إن التفاصيل تصنع الصورة الكلية أو المشهد العام، ومن هذه التفاصيل أن معظم السوريين يشتركون بيتًا بيتًا في أمور عديدة، منها مثلاً الفجوة الزمنية التي أحدثتها ظروف الحرب ومخلفاتها في حياتهم وما يمكن أن يترتب على هذه الفجوة. إنهم أجيال تعيش في المؤقت، والمؤقت لا يمكن البناء عليه، فلو استعرضنا حياة السوري في كل المناطق التي شتته الحرب إليها، لوجدنا أنه بات يعيش في اللاتعيين، استبدل الانتظار اليائس بالحلم، كما استبدل التعايش مع الظروف بالطموح والتخطيط للغد، فهو لم يعد قادرًا على بناء حياته بالشكل الذي فطر عليه بل صارت حياته مقيدة بالممكن والمتاح مهما انخفض مستوى العيش الذي يقدمه هذا الممكن والمتاح.

في مخيمات اللجوء ولد جيل من الأطفال ليس لديهم أحلام سوى الانتظار ولا يملك آباؤهم غير الوعود يقدمونها لهم، وعود لا علاقة تربطها بالزمن إلاّ الهروب من آجاله المحددة، أطفال يكبرون في نمط حياة بدائية تتشكل مفردات وعيهم وفقها، لا يعرفون البيت ولا يدركون مفهومه، لا يعرفون المدارس إلاّ بأدنى مستوياتها، لا يعرفون ساحات اللعب أو الألعاب إلاّ في المساحات التي تتحول إلى مستنقعات وثلوج في الشتاء، وسحابات غبار في الصيف، يكبرون بلا رعاية صحية يقارعون الأمراض بما تمنحهم إياه الطبيعة ويخضعون بمنتهى القسوة إلى قانون الاصطفاء الطبيعي.

في دول اللجوء يعيش السوريون أيضًا في المؤقت، في فجوة زمنية تتمادى فتبتلع أحلامهم وآمالهم وطموحاتهم، ويبددون أعمارهم في الانتظار، حتى في أفضل شروط تقدمها بعض دول اللجوء للاجئين، يبقى السوريون مرهونين للانتظار من دون أن يستطيعوا التأسيس لحياة وغد ومستقبل، انتظار أن تنتهي الحرب فربما يستطيعون العودة ومباشرة حياة جديدة، لكن العمر يمرّ ويرصف وراءه السنين الخاوية، السنين التي هجرتها الأحلام والطموح.

في الداخل السوري يعاني السوريون بطريقة أخرى، فمنذ تسع سنوات وحياتهم تسير على إيقاع الحرب، تنزلق شيئًا فشيئًا نحو مستويات من العيش تنسل منها أحلامهم وطموحاتهم، يتعلمون مراوغة الظروف، تروّضهم الحرب وترديهم إلى مستنقعات أخرى فيعيشون بلا حافز، يكفي أن يعيش الشاب تحت سطوة الشعور أن لا مستقبل ينتظره غير حمل السلاح، في أية بقعة كان، فالشباب كانوا وما زالوا وقود هذه الحرب الرخيصة، ويكفي الآباء قهرًا أنهم لا يستطيعون تأمين ما يسدّ رمق أطفالهم، ولا كسوتهم ولا حمايتهم من البرد أو الأمراض، يكفيهم أنهم لا يستطيعون أن يحلموا

تسع سنوات أوقفت تدفق الزمن، زمن السوريين، فتعطلت قدراتهم الإبداعية والإنتاجية، ورهنوا أعمارهم للانتظار

بمستقبل لهم وأنهم يعيشون قلق هذا المستقبل قبل أولادهم، يكفي الأمهات ما يتعرضن إليه من قهر وهنّ يربين أطفالاً ليتلقفهم المجهول، الموت بأي طريقة، فالحرب قدمت كل أشكال الموت للسوريين. يكفي الأهل قهرًا أنهم يعيشون في الفراغ الذي يبتلع حياتهم وأحلامهم.

تسع سنوات أوقفت تدفق الزمن، زمن السوريين، فتعطلت قدراتهم الإبداعية والإنتاجية، ورهنوا أعمارهم للانتظار، من في الخارج ينتظر، ومن في الداخل ينتظر، ومن في مخيمات الذل ينتظر، والجميع ينتظرون إلاّ حيتان المال وأثرياء الحرب، أولئك الذين لا يخجلون من بطونهم المترهلة أمام وجنات الأطفال الغائرة وبطونهم الخاوية، تسع سنوات قطّعت جسد السوريين، مرة بالحرب ومرّات بانغلاق أفق الحياة الإنسانية في وجوههم.

إن حالة العيش في المؤقت تجعل السوريين معلقين في فراغ قاتل لأي طموح وبلا أحلام، إذ حتى تأجيل أحلامهم صار ترفًا لا يجرؤون عليه، إنه اللاتعيين الذي يبدد الشعور بالجاذبية والاستقرار، يبدد المعاني كلها، يعيد البشر إلى مراحل من التاريخ تخطتها البشرية منذ قرون فكيف لهم أن يرسموا حياتهم ويخططوا لمستقبل أبنائهم ويبنوا وطنهم؟ يعيشون في اللاتعيين الذي يدق الأسافين بينهم وبين المستقبل، والعالم يتفرّج، بل ويساوم على حقهم في العيش.

كلمات مفتاحية