icon
التغطية الحية

عن المبدعين ومتلازمة القلق

2022.09.17 | 08:07 دمشق

مبدع
+A
حجم الخط
-A

اهتمت الفلسفة منذ سقراط بدراسة قضايا الإنسان والذات البشرية وما يعتمل داخلها من مشاعر وأفكار تسيطر على مجرى الحياة، وسلطت الفلسفة الوجودية الضوء بشكل واضح على حالة القلق من تعريفه إلى آثاره على النفس. وهنا يقول هيدجر: "الإنسان يقلق، وذلك راجع لإدراكه بأنه محكوم في النهاية بالموت، لذلك يبدأ رحلة البحث عن وجوده وجدوى استمراره في الحياة، والقلق في هذا السياق ليس شعورًا، وإِنما قيمة فلسفية ومبدأ لإزالة القناع عن وجه الإنسان وتعريته وتأكيد ذاته".

أما علم النفس فيعرّف القلق على أنه "خبرة انفعالية غير سارة يعاني منها الفرد عندما يشعر بخوف أو تهديد من شيء دون أن يستطيع تحديده تحديدًا واضحًا". وبالتوازي مع هذا التعريف يرى فرويد أن القلق ليس سوى شعور خوف مبهم، وردّه إلى مؤثرين، حيث يبدأ داخليًا ثم ينمو بمحفزات خارجية.

وللقلق ارتباط بمعظم المشاعر والأفعال الإنسانية، ويؤكد سارتر ذلك بقوله: "إن الوجود ليعلن صراحة أن الإنسان يحيا في قلق ويكابد القلق".

ما علاقة القلق بالحالة الإبداعية؟

عرّف الإبداع على أنه: "حالة عقلية بشرية تنحو لإيجاد أفكار أو طرق ووسائل غاية في الجدة والتفردـ بحيث تشكل إضافة حقيقية لمجموع النتاج الإنساني"، ومن هنا يصنف الإبداع كفعل إنساني محض يتميز فيه الفرد عن باقي أقرانه. وقد عُرف عن كثير من المبدعين أمثال ألبير كامو ولودفيغ فان بيتهوفن وفان كوخ وبدر شاكر السياب وغيرهم، أنهم مصابون باضطرابات نفسية وبخاصة ما يسمى "القلق الوجودي"، فنظرة الإنسان المبدع للحياة والوجود والمغزى منهما، مختلفة عن باقي أفراد المجتمع، لذا وكونه ذا شخصية متفردة، فهو يرى المألوف بطريقة غير مألوفة، حيث يمتلك قدرة هائلة على الابتكار حتى في إيجاد مسارب ومآرب أخرى لأي فعل أو شعور يمارس اتجاهه أو ضمن محيطه وهذا بالطبع يؤدي إلى تضخم شعور القلق، علاوة على ذلك، المبدع إنسان خيالي يكتشف حلولًا للمشاكل الواقعية في عالم من صنعه. لهذا تكون الشخصية التي تتسم بالإبداع؛ شخصية قلقة، ذات إحساس مضاعف بالمؤثرات الداخلية والخارجية. بالتالي، يمكننا اعتبار القلق وقودًا يحرك عجلة الإنسان عمومًا والمبدع على وجه الخصوص، إيجابًا أو سلبًا.

هل القلق شعور إيجابي؟

يُصنّف القلق على أنه اضطراب نفسي يستوجب العلاج إما الدوائي أو بحضور جلسات علاجية، وقد تصل مضاعفاته عند عدم معالجته إلى لجوء الشخص لتعاطي المواد المخدّرة أو المسكرة، إلى جانب الشعور باكتئاب شديد ربما يقود إلى الانتحار. وكون العملية الإبداعية تتطلب جهدًا عقليًا وتركيزًا عاليًا بخلاف بقية الأعمال العضلية والذهنية، فإن القلق المفرط قد يشكل عائقًا أمام الإنتاج الإبداعي، ما يؤدي بالإنسان المبدع إلى الوقوع فريسة لاضطرابات أخرى كالعداء الاجتماعي، والنظرة السوداوية وغيرها، إضافة إلى أعراض بدنية. وبسبب الحلقة المفرغة التي يدور حينذاك المبدع في فلكها "الرغبة في الإنتاج - عدم القدرة على الإنتاج"، وفي محاولة يائسة للخروج منها، ربما يلجأ إلى دروب تزيد حال الاضطراب.

على النقيض من القلق تتمركز الثقة بالنفس كشعور إيجابي والتي قد تنحو أحيانًا إلى حافة الإفراط حيث يشكل الغرور مقتلة للمبدع

تقول إليزابيث جيلبيرت في عملها غير الروائي "بيغ ماجيك" والذي تتحدث فيه عن قائمة من المخاوف التي يمكن أن تحد من العملية الإبداعية لدى الإنسان: "الخوف ساحة قاحلة تجف فيها أحلامنا في لهيب الشمس الحارقة". لذا نجد بعض المبدعين أمثال سيلفيا بلاث وفيرجينيا وولف وأرنست همنغواي قد أنهوا حياتهم عندما جفت أحلامهم.

القلق وقود للاستمرار

على النقيض من القلق تتمركز الثقة بالنفس كشعور إيجابي والتي قد تنحو أحيانًا إلى حافة الإفراط حيث يشكل الغرور مقتلة للمبدع على المستوى التفاعلي وفي مضمون مادته الإبداعية أيضًا، وهنا يعتبر القلق النسبي مفتاحًا للحفاظ على توازن الشخصية المبدعة التي ترى أن من واجبها إيصال وجهة نظرها في مسائل شتى إلى أكبر قدر من الناس. وعليه لا تهتم الشخصية المفرطة بالغرور بآراء وملاحظات المتلقي أو الناقد وتبقي على نهجها وخط سيرها ربما دون تجديد أو تطور، بينما تتلقف الشخصية القلقة أصغر الملاحظات ووجهات النظر وتعمل على تحليلها والاستفادة منها في عملية التطوير. لذا تبقى الأخيرة في حالة اتقاد شبه دائم ويخلق لديها هاجس مستمر بعدم الرضى عن مادتها ومنجزها، فيكون التجديد والمثابرة للأفضل هما الوسيلة والغاية. وبالتالي يمكن أن تكون الطمأنينة تجاه المادة الإبداعية فخًا في درب المبدع.

في ميدان الكتابة الإبداعية على سبيل المثال يقول إبراهيم صموئيل: "ولو أمكن لنا أن نرافق هذا الموهوب الحق وهو يُنشئ عمله الشعري أو القصصي أو الروائي، وأن نصغي إلى أعماقه لتبين لنا مصداقية المخاوف والهواجس التي تعتمل فيه وهو يدخل عالم الأدب، وحجم الشعور بالقلق كما لو كان يغامر برأسه وأحلامه، أو يندفع إلى تجربة غير محمودة العواقب، قد تؤدي إلى الهزء به، أو إلى تلقي نصيحة الكف عن هذه "الفعلة" والتوبة عن الإتيان بمثلها".

ومن جانب آخر يشكل القلق حالة من اغتراب الذات ونفي للمجتمع والواقع خارج النفس الموهوبة التي تعتبر الاغتراب سمادًا لإنماء شجرة الموهبة، فكلما كانت الموهبة بعيدة عن أسوار المجتمع والسائد، كلما ضربت جذورها أبعد في تربة الفرادة والتميز.

وأخيرًا، واجه الأشخاص الذين عملوا في مجال الفنون على مرّ الزمان مشاكل الفقر والاضطهاد والنبذ الاجتماعي والصدمات النفسية وغيرها والتي ربما كان لها دور في التسبب بأمراض عقلية، فشكّل ذلك صورة نمطية حول المبدع جعلت حقل الإبداع أكثر جاذبية وغموضًا، لكن ليس كل مبدع بالضرورة كائن مصاب باضطراب القلق، ولا كل حالة إبداعية هي محصّلة لقَدْرٍ ما من الجنون، لكن لا بد من الحفاظ على حالة التوازن حيث لا إفراط ولا تفريط.