عن التراحم والعدالة الانتقالية بعد كل نكساتنا 

2019.06.05 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كنت أود أن أكتب في الذكرى الثانية والخمسين للنكسة، هالني أننا لا نحتاج إلى كلمة أخرى لنعرف أن المقصود هي هزيمة حزيران وكأن تاريخنا بريء من النكسات إلاّها، أو لكأننا أدخلنا هذه الكلمة قواميسنا اللغوية مرادفًا لحرب حزيران 1956، وربما إذا فتحنا القاموس لنبحث عن معنى النكسة يطالعنا شرح بأنها الحرب التي وقعت بين الجيوش العربية لدول المواجهة وبين إسرائيل من الخامس وحتى العاشر من يونيو/حزيران 1967 تمكنت إسرائيل خلالها من هزيمة جيوش مصر والأردن وسوريا، واحتلال شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية وهضبة الجولان.

لقد كانت لهذه الهزيمة المدوية التي وقعت في أيام قليلة، في حرب تعد قصيرة، آثار جارحة في صميم قلوبنا ونفوسنا التي ما زالت تنزف هزيمة تلو أخرى منذ تلك الأيام، وتتراكم الهزائم وتنهار مناعاتنا ودولنا ومجتمعاتنا من دون أن نعرف كيف ومتى يمكن أن ننهض، حتى باتت الحرب التي تشهدها المنطقة وبالأخص سوريا هزيمة أخرى زجتنا في جحيم الارتياب من جديد وأبعدتنا عن ضرورة السؤال والبحث واستقراء واقعنا للوصول إلى أسباب ما نحن فيه وما وصلنا إليه، وأسباب هزائمنا المتكررة.

لم أستطع أن أكتب عن النكسة المريرة تلك، فصدى الحرب الحالية التي ما زالت تستعر نيرانها فوق أرض سوريا فتحرق أرواح آمنيها وتحرق محاصيلهم وتحرق وجه الأرض أينما وجدت الحياة، ما زال يقض مضجعي مع كل السوريين المنكوبين، ويبقى السؤال مطروحًا كيف النهوض من جديد؟

لقد كانت لهذه الهزيمة المدوية التي وقعت في أيام قليلة، في حرب تعد قصيرة، آثار جارحة في صميم قلوبنا ونفوسنا التي ما زالت تنزف هزيمة تلو أخرى

سؤال جدير بالوقوف عنده طويلاً، فليس كل نهوض حالة صحية أو واعدة بالضرورة، وليس كل نهوض خطوة أولى في طريق العمل والبناء. استوقفتني بعض الجمل في خطاب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أمام طلاب جامعة هارفارد عندما قالت: "إن ما يبدو ثابتاً ولا يتغير، يمكن أن يتغير". وأضافت: "كل تغيير يبدأ من الرأس". صحيح، إن كل تغيير يبدأ من الرأس، بالأخص إذا كان هذا الرأس يحوي عقلاً نقديًا قادرًا على التخيل والإبداع، متحررًا من أسر النصوص والبديهيات، وهذا أمر يلزمه الكثير من الشغل حتى يصبح أساسًا متينًا للمستقبل، لكنها أضافت: "التغيير للأفضل أمر ممكن إذا عملنا معاً. ولن ننجح في ذلك لو عمل كل منا بمفرده". فهل سيعمل السوريون معًا في قادم الأيام؟ هل ستنهار الجدران التي ارتفعت فيما بينهم خلال سنوات القتل والعنف والتجييش والتضليل ورص الصفوف خلف العقائد والإيديولوجيات الحارقة المدمرة؟ تواصل أنجيلا ميركل خطابها وتقول: "لكن إذا هدمنا الجدران التي تقيدنا، وإذا فتحنا الباب وبدأنا بدايات جديدة، فكل شيء يصبح ممكناً". وواصلت شرح الفكرة: "الجدران يمكن أن تنهار، والديكتاتوريات تختفي". كلام يصدر عن امرأة في مركز قيادي أثبتت جدارة في استلام الحكم وتوجيه دفة سياسة بلادها خلال أربعة أدوار تشريعية مع الأخذ بعين الاعتبار سيرتها الذاتية وحياتها التي عاشت قسمًا كبيرًا منها في ظل نظام شمولي ديكتاتوري، لا بد من الوقوف عنده وعند تجربتها الغنية المثمرة، فهل لنا، نحن السوريين، أن نستفيد من تجارب الشعوب وتجارب قادتها؟

إن ما أورثته الحرب، وهي لم تنتهِ بعد، من انقسام وتفتت وتجذير المجتمعات العميقة والهويات الضيقة في سوريا، إنه لمن المؤسف أن نشهد تلك الارتدادات وذاك النكوص عند شريحة ليست بالقليلة من النخب السورية نحو حالة يمكن وصفها بأنها دون طموح الشعب ودون مقومات الدولة المرجوة والديموقراطية المنادى عليها. إن ما تشهده البشرية من مآس وكوارث في وقتنا الحالي وخاصة سوريا يلخص واقعًا يفوق كل خيال أو تصور وليست الحروب التي تدار على أرضنا وبأرواح شعبنا، التي تدمر هويتنا وتراثنا الحضاري إلاّ نتيجة لهذا الواقع الرهيب، فهل يمكن الحديث عن التراحم في لحظة استعار مجنون كهذا؟ التراحم يندرج تحت مفهوم الأخلاق والمثل، هذا المفهوم الذي أول ما ينتهك في ظروف الحروب الوحشية كالتي تدور في بلادنا، لا يمكن الحديث عن تراحم من دون الحديث عن عدالة انتقالية ستفرض نفسها كأولوية عندما يصمت صوت المدافع، لا بدّ من أن يعرف الناس ماذا تعني هذه العدالة، وما أهميتها في المرحلة التي تنتقل فيها الشعوب من أتون الحرب والنزاعات إلى ضفة أخرى، فطالما الجروح مفتوحة بهذا العمق وعلى كل أشكال السموم، فإن الوجع كبير وصراخ الدم يعتم العقل والبصيرة ويضغط الصدور. لابد من نشر الوعي بالعدالة الانتقالية التي تظهر المرتكب وتدعوه إلى الاعتراف بارتكابه مهما كان موقعه أو انتماؤه، وتحت أي ذريعة تستر، ثم يبقى أمر تطبيق العقوبات أو العفو بيد الجهة المغدورة أو المظلومة أو المعتدى عليها، السوريون بحاجة قبل كل شيء إلى وقف مجازرهم، وكل يوم يمر في القتل السوري سيكرس الانهيارات أكثر، وإذا كان هناك من حديث ضروري فهو الحديث عن العدالة الانتقالية وتعريف الناس بها، بدلاً من طمسها كمفهوم مفيد للمستقبل تحت خيمة المصالحات الوطنية التي تجري بتفاهمات سياسية. مشروع جسيم مثل هذا المشروع في بلداننا ومجتمعاتنا التي يعيش بين ثناياها تاريخ حافل حدّ التخمة بالانتهاكات والعنف والقتل والثأرية وأسباب الانقسام، بعدها تبدأ الخطوة الثانية، خطوة التراحم التي ترتقي بالنفس البشرية وتنقي الروح، عندها يمكن أن نطمح بدور لنا في الحضارة الإنسانية.

إن ما أورثته الحرب، وهي لم تنتهِ بعد، مزيد من الانقسام والتفتت وتجذير المجتمعات العميقة والهويات الضيقة في سوريا

العدالة التي هي حلم كل سوري يلزمها تحضير تربة تجعلها مفهوماً قابلاً للإدراك والقبول، إذ كيف يمكن الطلب من مجتمع نما وكبر وتعقّد على مرّ العقود على أساس الآخر الذي ليس عليّ أن أقبله لأتشارك معه في الحياة والبناء، وإذا قبلته تحت ضغط ما، فهذا لا يعني أنني أعترف به، بل الآخر الذي يكرهني ويظلمني ويعتدي عليّ ويسلبني حقوقي التاريخية، وبالتالي ما إن تحن الفرصة حتى أثأر وأسترد حقي وأقصيه عن المجال الذي سأتفرد بامتلاكه، أن يتقبل فكرة التراحم والتسامح والغفران من دون أن يفهم معنى العدالة وممارستها الصحيحة؟

هذه التربة التي تتطلبها العدالة تحتاج إلى جهود كثيرة، المسؤولية الأكبر تقع على عاتق النخب المجتمعية في كل المجالات، ومن كل أطياف الشعب السوري، وحتى يمكن البدء بإنجاز مهمة شاقة كهذه لا بد للنخب أولاً من التخلص مما علق عليها من أدران الحرب، والرجوع إلى ضمائرهم الأولى، وخطابهم الأول، بالأخص النخب التي راكمت تاريخًا من النضال في وجه الاستبداد ومن النضال من أجل النهوض بالوعي العام ومناصرة قضايا الشعب، ونالها قسط من هباب الحرب، فمن طبيعة الحروب كالتي تدور في سورية أنها تحدث شروخاً وانهيارات في منظومات القيم والأخلاق، وإعادة بناء هذه المنظومات تتطلب العمل على مراحل، مؤكد أن ثقافة التراحم ضرورية حتى بين النخب، لكنها ليست الخطوة الأولى، وليس التراحم والتسامح والغفران هو المطلب الأول والمضمون لدى شعب منتهك مجروح منكوب.

كلمات مفتاحية