عن التجربة التركية التي يحاول الجميع تقليدها

2018.11.02 | 00:11 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تستكمل تركيا مع افتتاح مطار إسطنبول الذي يعد أحد أكبر المطارات في العالم بناء نموذجها العالمي، الذي بات تجربة يحاول الكثير من دول المنطقة والعالم تقليدها.

لا تقتصر معالم هذه التجربة على الناحية الاقتصادية، بل تتعداها إلى السياسة وفن إدارة الأزمات، وصناعة التأثير المتعدد الجوانب، والمرتبط بملفات معقدة ومتباينة.

لقد كشفت التجربة التركية عن نموذج لم تنجح أي من دول المنطق في صناعته، وهو يمثل النجاح الوحيد لتيار من تيارات الإسلام السياسي في فصل الدين عن الدولة، أو في التعامل مع خطابه العقائدي كنوع من رؤية ثقافية خصوصية أو منظومة إيمانية لا يسمح لها أن تنتج السياسة والاقتصاد، بل أن تتعايش معهما مع منحهما الأولوية.

انطلاقا من هذه المصالحة التي أثبتت كل تجارب المنطقة أنها مستحيلة نما وازدهر نموذج تركي فريد، لم يعمل التيار الإسلامي الذي يمسك بزمام السلطة فيه على أسلمة الحياة العامة والاقتصاد، ولم يجنح نحو تبني المنظومات الجهادية، بل وعلى العكس من ذلك، اندفع في اتجاه تمكين البنية التي تعاديها كل التيارات المماثلة، أي الدولة.

لم يصنع حزب العدالة والتنمية دولة إسلامية، بل صنع دولة يتعايش فيها الإسلام مع الزمن، وتؤمن التوافق الصعب بين ما يفترضه الإسلام من خصوصية وبين متطلبات التحديث، فصارت بذلك النموذج الذي يقصي الأصوليات ويسمح بإدماج الإسلام في قلب العالم، لا بل يقدم نموذجا متقدما على النموذج الأوروبي الذي كانت ردة فعله على الإرهاب مخيفة، وتمثلت في حالة نكوص إلى ما قبل زمن التنوير سمحت بإعادة إنتاج اليمين المتطرف والذي يماثل بشكل أو بآخر نماذج الإسلام المتطرف في العالم ويغذيها.

لقد كشفت التجربة التركية عن نموذج لم تنجح أي من دول المنطقة في صناعته وهو يمثل النجاح الوحيد لتيار من تيارات الإسلام السياسي في فصل الدين عن الدولة

يمكن كذلك الإشارة إلى أن كل مشاريع انتزاع الشرعيات في المنطقة باتت تجد في الغربنة، والسعي إلى التماثل مع النموذج الأوروبي منطلقا لها، فكان حديث ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لافتا في هذا الصدد، لناحية تأكيده على أنه يسعى إلى تحويل السعودية إلى أوروبا الجديدة.

إيران دولة ولاية الفقيه تسعى كذلك إلى رفع سيف العقوبات الأميركية عنها، وفتح أبواب التفاوض من خلال الدفع في اتجاه اعتماد قوانين مكافحة الإرهاب وتبييض الأموال، وتوحي بأنها لا تمانع  تصميم عملية إعادة إنتاج كاملة المعالم لكل نظامها وكل معالمه في حال القبول بالتفاوض معها.

كل هذه السياقات تعني أن دول المنطقة تحاول صناعة نموذج يمكن أن يسوق في العالم الذي ما زال يعتبرها بعيدة عن زمنه ومفاهيمه، ولا يوجد في المنطقة دولة نجحت في إرساء نموذج متصل بالعالم، لا بل يتقدم في بعض التفاصيل على التجارب الأوروبية سوى تركيا، ما يعني أنه لا سبيل أمام كل الدول التي تحاول انتزاع شرعية دولية سوى أن تعمد إلى تقليد التجربة التركية.

تختلف قدرات وطواعية دول المنطقة وقدرتها على تنفيذ عملية انتقال سلس وآمن إلى الزمن الأوروبي، فالمخاطر الكبرى التي تحول دون إتمام هذا الانتقال بالنسبة لإيران ترتبط بإنهاء طموحاتها التوسعية، والتخلص من محمولها الأيديولوجي الجهادي، ونسف كل تاريخ الشحن ضد الغرب، والأهم من ذلك كله إنهاء فكرة ولاية الفقيه وسحبها من التداول، واستبدالها بمنظومة قانونية حديثة.

ستجد إيران نفسها في مواجهة نفسها وتاريخها، وخصوصا أن التجييش الأيديولوجي المعتمد على هذه العناوين بات عميقا وفاعلا، ومؤسسا لنوع من السيكولوجية التي تخترق عقول وقلوب قسم كبيرمن الإيرانيين، الذين ستجد المؤسسة الحاكمة صعوبات جمة في تطويعهم، وإقناعهم بتبني كل ما كانت تعتبره شرا مطلقا من قبل.

تختلف قدرات وطواعية دول المنطقة وقدرتها على تنفيذ عملية انتقال سلس وآمن إلى الزمن الأوروبي فالمخاطر الكبرى التي تحول دون إتمام هذا الانتقال بالنسبة لإيران ترتبط بإنهاء طموحاتها التوسعية

الأمر يبدو أكثر سلاسة في دولة مثل السعودية التي كان تبنيها للمنظومة الأكثر قتامة من منظومات الإسلام السياسي ينذر بابتعادها الدائم عن زمن العالم ولحظته، فقد كان العيش السعودي عدوا لكل النخب السعودية ولملايين الشباب السعوديين الذين تلقوا تعليما غربيا، وتعايشوا مع نموذج سياسي وقانوني غربي، وتبنوا شكل حياة لا يمكن تطبيقه في السعودية.

الغربنة في هذا السياق  تمثل نوعا من المكبوت في أوساط الشعب السعودي الذي يتشكل بمعظمه من الشباب، لذا فإن اعتماده كنموذج للدولة لن يشكل سوى عملية انتقال من السر إلى العلن، أو السعي إلى مطابقة المجال العام وسياسات الدولة مع شكل العيش الذي يشتهيه الشباب السعودي ويحياه.

الأثر التركي في الدفع في اتجاه بلورة هذا التوجه واضح وجلي، فلقد أجبر التعامل التركي مع قضية اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي السعودية ودول المنطقة والعالم على التعامل مع المسألة بقدر كبير من الحزم والشدة، ما يؤسس لتعامل جديد مع مسائل الاعتداء على الصحافيين، فللمرة الأولى في تاريخ المنطقة نجد دولة تعترف بمقتل أحد مواطنيها وتسعى لتبرير ذلك، وتجد نفسها مضطرة لإجراء عملية إعادة هيكلة لمنظومتها الاستخباراتية والأمنية محاولة التخفيف من ثقل المسؤولية عن هذا الاغتيال،الذي كان قبل الدخول التركي الشرس على خطه يمر مرور الكرام، ودون أي أثر يذكر.

بعد هذا التأسيس الصلب للتعامل القانوني والحقوقي مع مسألة اغتيال الصحافيين انفتحت العلاقات السعودية التركية، وكانت الأسباب المباشرة تتعلق بالتعامل مع قضية الخاشقجي، ولكن البعد الأوسع يتمثل في اعتراف سعودي غير معلن بأسبقية النموذج التركي، وبأنه يمثل الحالة التي لا بد من  الاقتداء بها كي تصبح السعودية في عين العالم.

من هنا يمكن الخروج بخلاصة تقول إن ما أسسته تركيا، والذي تسعى السعودية ودول المنطقة إلى الدخول على خطه، يمثل الحرب الأكثر شراسة على الإرهاب وعلى كل تيارات الإسلام السياسي المتطرفة وعلى الديكتاتوريات كذلك، لأنه يجعل من الكيانات المتبعثرة في المنطقة، والتي لم تنجح بعد في أن تتحول إلى جغرافيا آيلة للعيش، أوطانا حقيقية تستقبل أبناءها وتحتضنهم، وتؤمن لهم فرص العمل والحياة تحت ظل منظومات قانونية متطورة وشكل حياة متصل بالحاضر.