عنف الاستبداد وظلامية التحريم.. والخوف من الموسيقى

2019.08.04 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تخبرنا عقلية التحريم أنها متى بدأت بالعمل فهي لا تتوقف عند أي حد. ما إن تحوز أدنى سلطة لفرض ما هو حلال أو حرام حتى تتوغل إلى أقصى أنفاس البشر.

في القرون الوسطى (الإسلامية والمسيحية)، وصل الأمر إلى حد اعتبار الضحك أمراً شيطانياً. وقبل فترة، أفتى رجل دين مسلم بالتالي: "من أكبر الكبائر نزول المرأة في البحر حتى لو كانت محجبة لأن البحر ذكر وبدخول الماء إلى مكان حشمتها تكون قد زنت ويقع عليها الحد". بالطبع، ليس هذا النوع من الفتاوى أمراً نادراً أو هامشياً. شيوخ الأزهر في مصر أو مشايخ السعودية غزيرون بإنتاج فتاوى من هذا النوع.

بغض النظر عن حرفية هذه الفتوى ومضمونها، تبقى العقلية التي تُنتجها هي الأرومة الثقافية التي تصوغ نظام القيم والأفكار والأخلاق المهيمن على مجتمعاتنا. وبغياب أي كوابح، فهي إذ تبدأ أحياناً "معتدلة" سرعان ما تجنح حتماً من تطرف إلى تطرف أعلى حتى تسود الفتوى الأخيرة والنهائية: التوحش المطلق.

الروايات الكثيرة التي يسردها الناجون من "داعش"، ترسم على نحو جهنمي ذاك المجتمع الذي أراد التنظيم العنيف تشكيله وإدارته. مجتمع مكرس لتقديم أضحية بشرية كل يوم لإله متعطش للدم حتى الفناء التام.

قبل عقود من داعش، سيطر تنظيم ماركسي، "الخمير الحمر"، على كمبوديا. كانت الفكرة الأساسية لقائد التنظيم بول بوت، تطهير المجتمع من كل موبقات الحداثة الغربية و"تأثيرات الاستعمار" والعودة إلى نقاء متخيل يقبع في "الماضي السعيد"، حيث ينتفي الصراع الطبقي والتفاوت. وهو من أجل هذا "التطهير" أقام مذبحة فعلية بكل ملاكي الأراضي والبرجوازيين وخريجي الجامعات والذين يتقنون لغات أجنبية.. أي كل من هو ليس فلاحاً أو حتى ليس من أصول فلاحية.

قبل عقود من داعش، سيطر تنظيم ماركسي، "الخمير الحمر"، على كمبوديا. كانت الفكرة الأساسية لقائد التنظيم بول بوت، تطهير المجتمع من كل موبقات الحداثة الغربية و"تأثيرات الاستعمار" والعودة إلى نقاء متخيل يقبع في "الماضي السعيد"

أجبر بول بوت جميع سكان المدن والمراكز الحضرية على هجرانها للعمل في مزارع جماعية. وخلال أربع سنوات فقط (1975 -1979)، أدت هذه "التجربة" إلى هلاك أكثر من مليوني إنسان. أبيدت عائلات بأكملها جراء الإعدامات اليومية والجوع والأوبئة وظروف العمل بالسخرة. عادت كمبوديا إلى الماضي فعلاً، إلى حقبة القرون الوسطى، لكن من غير طهارة ولا سعادة.

السعي إلى النقاء المطلق وفق رؤية دينية أو غير دينية غالباً ما ينتهي بتراجيديا إنسانية، وبهلاك المجتمع.

ما يحدث حالياً، في بلادنا ما هو أسوأ من التجربة الكمبودية. إذ تتضافر قوى التزمت (من تحت)، مع قوى الاستبداد (من فوق)، كآلة واحدة تطحن البشر وتعصرهم بين فكيها الهائلي العنف والقسوة. يحدث أن سلطة الاستبداد تخنق صوتك وكلماتك، فيما سلطة التعصب تحرم موسيقاك. الجنون الذي ظهر في كربلاء العراق من مشهد عازفة كمنجة للنشيد الوطني العراقي، والذي ظهر في جبيل لبنان من حفل فرقة غنائية، وما بينهما منع اللعب بالطبلة في بلدة النبطية اللبنانية، إضافة أصلاً إلى سيادة هذا النمط من التحريم على جغرافيات وجماعات المنطقة، يشي أننا ننزلق داعشية من دون داعش.

وإذا كان الاستبداد يرفض حقك في الكرامة والعدالة، يرفض شرطك الإنساني، فإن سلطة التحريم ترفض حقك في الحواس والتفكير، ترفض شرطك البشري، وجودك الحسي والفردي والبيولوجي. وفي الحالين، يحوّل نظام الاستبداد الديكتاتور إلى "إله" قاتل، فيما يحوّل نظام التحريم الإله نفسه إلى "رب" استبدادي.

تنتقي هذه المطحنة الجبارة الضحايا الضعاف أولاً، النساء هم الهدف الأول والمفضل. شغف الفتاوى بهن وتفنن رجال الدين في ذلك هو هوس لا شفاء منه. الأعداء المفضلون هم الفنانون والمثقفون. الضحايا البارزون اليوم هم المثليون. وبالطبع، لا أحد ناجياً أو بمنأى عن هذا "التطهير".

يسود عداء عنيف لكل ما هو مختلف، لأنماط الحياة وظواهرها، وينعدم التسامح أو أي نوع من الرحابة والقبول. وتتضافر مع شراسة الديكتاتورية وحملات الإبادة، موجات العنصرية والكراهية الدينية والضغائن الطائفية المقرونة بحروب ومذابح فعلية ومظالم مريعة تصيب الناس يومياً، علاوة عن فداحة الفساد وفتكه بمقدرات الدول وتبديده للثروات الوطنية.

وما انتعشت ظواهر الهوس الديني المتجهم الخائف من الموسيقى إلا لأن قسوة الاستبداد وعنفه وكابوسيته محقت وحطمت الحياة وقتلت الأمل.

يسود عداء عنيف لكل ما هو مختلف، لأنماط الحياة وظواهرها، وينعدم التسامح أو أي نوع من الرحابة والقبول. وتتضافر مع شراسة الديكتاتورية وحملات الإبادة، موجات العنصرية والكراهية الدينية والضغائن الطائفية المقرونة بحروب ومذابح فعلية ومظالم مريعة تصيب الناس يومياً

الدعاوى الأسدية لما سمّته "الانسجام" الاجتماعي كانت التبرير "الأخلاقي" والسياسي للإبادة والتهجير والتطهير السكاني، والدعاوى الدينية (الإسلامية والمسيحية) لما تسميه صون المقدسات وطهارة المجتمع كانت التبرير اللاهوتي والفقهي لقتل الروح والجسد والعقل والعاطفة وخنق الأهواء والأفكار.. والضحك. وما بينهما، انفجرت كل أنواع الكراهيات الطائفية والإثنية، المتداخلة بالعنصرية وكل أنواع التمييز.

الداعشية والأسدية وكل التسميات المشابهة والمتقابلة على معنى واحد، تقوم على شرط وحيد: نبذ الحرية.

كل الحيل السياسية والدينية التي تفتك بمصيرنا هي من أجل منع هذه الكلمة وأفاعيلها: الحرية. وهي الواجبة لنا عارية بلا تحديد وبلا قيود.. وبلا أي تحفظ. هي الحق الأول لاكتساب إنسانيتنا. والمعركة المجبرون على خوضها منذ اليوم الأول ليست أبداً ضد عصابة الاستبداد وحدها بل ضد "منظومة" الاستبداد كلها وأخلاقها كلها وعقليتها كلها وفقهها ولاهوتها وفتاويها.. بوجهيها "العلماني" و"الديني"، بنسخها كلها.

الحرية بلا حدود للفرد نفسه وليس فقط لمجتمع متخيل أو لأمة متصورة. الحرية كبند أول في شرعة الحقوق التي تتيح لنا واجب البحث عن السعادة.. والضحك. كل ما عدا ذلك هو وعد بجحيم من دموع ودماء.