ضحايا اليمين الهيغلي

2019.11.17 | 16:32 دمشق

5840_1-1.jpeg
+A
حجم الخط
-A

عندما تغرق الشعوب في الفقر والتخلُّف والحروب الداخلية، كما هو حالنا، تبدأ بالبحث عن أسباب هذه المصائب، وغالباً ما يجنحُ الفهمُ الشائع إلى الأسباب والحلول السطحيّة والشعبَويّة، فيردُّ هذي المصائب جميعها إلى العِرق الذي ينتمي إليه أبناءُ الشعب أو دينهم أو ثقافتهم. ولهذا نسمعُ مثقفين عرباً يشتُمون العرب منذ عقود، وآخرين يشتُمون الأديان والمذاهب الدينية، وحديثاً صاروا يُدينون ثقافتنا كلَّها لاعتقادهم بأنها هي العلّة الكامنة وراء ذلك.

لا نستغرب من الجماعات الإسلامية أن تنادي بشعارات مثل "الإسلام هو الحلّ"، فهؤلاء يعتبرون أنّ الدين هو الكُلّ والعالَم هو الجزء، الدين هو الأساس والعالَم وكلّ ما فيه مجرّد فُروع. ويظنّون أن العودة إلى الدين (ومتى كانت شعوبنا بعيدةً عن الدين أصلاً؟)؛ هي الكفيلة بأن نصبح أمةً متطوّرةً في السياسة والاقتصاد والتعليم والصحة والقضاء والثقافة والرياضة... إلخ، وهؤلاء الإسلاميّون لا جدوى من نقاشهم في الغالب. لكننا نستغربُ مِن بعض مَنْ يعتبرون أنفسَهم "خصومَ الإسلاميين"، وينادون بالعَلْمانية والتنوير؛ أن يفكّروا بالطريقة ذاتها، فيقولون إن "الإسلام هو المشكلة"، ويحسَبون أنّ هجومهم العِلْمَويَّ (العِلْمَويّة: Scientism) الساذجَ على الدين، ودعوةَ الناس إلى الابتعاد عن أديانهم ومذاهبهم؛ هو ضربٌ من التنوير أو التحرُّر أو العَلْمانية، وأنه هو الكفيل بأن نصبح أمّةً متطورة في السياسة والاقتصاد والتعليم والصحة والقضاء والثقافة والرياضة... إلخ. وفي الحقيقة إن هذين الطرفين وجهان لعُملة واحدة.

هؤلاء الذين يعتبرون أنفسَهم "عَلْمانيّين" و"خصومَ الإسلاميين"، وهُم غارقون في التفكير الديني التقليدي حتى النخاع، نرقّيهم ونسمّيهم "ضحايا اليمين الهيغلي"، مع أنهم لم يقرؤوا هيغل في الغالب. لكنّ أوجه الشبه بينهم وبين اليمين الهيغلي تعود إلى المنابت الدينية لكلا الفِكْرين.

هؤلاء الذين يعتبرون أنفسَهم "عَلْمانيّين" و"خصومَ الإسلاميين"، وهُم غارقون في التفكير الديني التقليدي حتى النخاع، نرقّيهم ونسمّيهم "ضحايا اليمين الهيغلي"

في البداية نقول إن المثاليّة في الفلسفة ليستْ صفةً إيجابية أو قيمةً أخلاقية، المثالية تعني هُنا تفسير العالم بالأفكار وصراعها، على النقيض من الفلسفة المادية التي تُفسّر العالم بالماديّات وصراعها. وقد كانت الفلسفة المثالية الألمانية ذُروةَ المثاليّة، ويُقال إنها كانت بمثابة عَلْمَنَة للإصلاح اللُّوثري، إذ حلَّت الفلسفة المثالية محلَّ اللاهوت المسيحي. أقول ذلك للإشارة إلى نشأتها ذاتِ الطابع الديني.

إنّ حجرَ الأساس في فلسفة التاريخ عند هيغل هو "العقل يحكُم التاريخ"، ولهذه الفلسفة جذورٌ يونانية ورومانية وعربيّة إسلامية، فقد أخذ هيغل من القرآن والمتصوّفة وابن خلدون. فمثلاً كلٌّ من ابن خلدون وهيغل ينطلقُ من أن العقل الكُلّي هو الذي يحكم العالم ويحرّك التاريخ، وهو عند كليهما الذات الإلهية. وعندما تقع الكوارث الكبرى كالحروب والمجازر والزلازل والبراكين، فهما يعتبرانها أموراً حسنةً لأنها تعبّر عن مشيئة الله وإرادته، وهي ما تُفسّر بمفهوم "الـمَكْر" عن المسلمين وابن خلدون، و"خُبث العقل التاريخي" عند هيغل وأتباعه من اليمين الهيغلي.

إن عيوب فلسفة التاريخ عند هيغل، وعيوب تفكير من سمّيتُهم "ضحايا اليمين الهيغلي"، وأعني بهم "خصومُ الإسلاميّين" من ذوي التفكير الديني المحض، تتلخّصُ في نقاط ثلاث: فهي أولاً تقول بوجود جواهر ثابتة أو صفات ثابتة لكلّ حضارة من الحضارات أو ثقافة من الثقافات أو شعب من الشعوب، والإيمان بالجوهر الثابت هو الخطوة الأولى نحو العنصرية. وهي ثانياً تُفسّر التاريخ والعالم كلَّه بالأفكار وصراع الأفكار، دون إعطاء الشروط المادية دورَها التاريخي، ودورها في صناعة هذه الأفكار ذاتها. وهي ثالثاً نمطٌ من التفكير الديني المتفلسف، إذ هو يرُدّ قيام الحضارات وسقوطها إلى الدين بالدرجة الأولى.

أرى أنّ مجال الدين هو الدين فقط، ولا يصحّ أن نُحمّل الدينَ وِزْرَ كلّ ما نعانيه من مشكلات ومصائب في السياسة والاقتصاد والتعليم والصحة والثقافة

وعلى الخلاف أولئك، أرى أنّ مجال الدين هو الدين فقط، ولا يصحّ أن نُحمّل الدينَ وِزْرَ كلّ ما نعانيه من مشكلات ومصائب في السياسة والاقتصاد والتعليم والصحة والثقافة، لأنّ الدين لا يستطيع حملَ المجتمع على كتفيه. الدين هو دينٌ فقط، ولا يمكن أن يكون مسؤولاً عن تخلُّفنا في العلوم ولا عن فسادنا في الإدارة ولا عن خمولنا ونمط حياتنا الكسول. والدين يتقدّم أو يتخلّف بتقدُّم أبنائه أو تخلُّفهم، وليس البشر هم الذين يتقدّمون أو يتخلّفون بسبب دينهم. ولو كان الأمور عائدة إلى الدين، لكانت الأوضاع في دولة مسلمة مثل مالي مشابهة للأوضاع في دولة مسلمة مثل ماليزيا أو تركيا، ولكانت الأوضاع في دولة ذات غالبية مسيحية مثل إثيوبيا أو أوغندا مماثلة للأوضاع في دولة ذات غالبية مسيحية مثل سويسرا أو النرويج.  

ومع أن مصطلح العَلْمانية يعني في الأصل السُلطة الزمنية (Saeculum) كمقابلٍ للسلطة الدينية، ويعني اليوم أنْ يقوم المجتمع والدولة على أُسُس دنيّوية وعلُوم دنيوية (زمنية)، ومن ثمّ يأخذ الدين مكانه الطبيعي في المجتمع والدولة؛ إلا أنّ كثيراً من "العَلْمانيين" و"اليساريين" و"التنويريين" الذين أنعمَ اللهُ علينا بمعرفتهم، يفكّرون بالعقلية الإسلامية ذاتها، فيرُدُّونَ كلَّ ما في مجتمعاتنا ودُولنا إلى الدين وحده.  أعني أنهم بدلاً من أنْ يفسّروا التخلُّف الاقتصادي بعلوم الاقتصاد، والفساد الإداري بعلوم الإدارة، وتأخُّر التعليم بعلوم التربية والتدريس، وانتشارَ الجريمة بالعلوم الجنائية والقانون والقضاء، وخسارة الفرق الرياضية بضعف الإعداد البدني والذهني منذ الطفولة... فإنهم يرمُون هذه العلوم جميعها في سلّة المهملات، ويفسّرون كلّ شيء بالدين! ويحمّلون المصائب كلها على عاتق الدين، ثمّ يقولون إنهم "علمانيّون" وإنهم "نقيضُ الإسلاميين"! وأنا لا أقصدُ هنا أن أقيمَ جداراً حول الدين وأمنعَ مَنْ يريدُ نقدَهُ من حقّه في النقد، بل أشيرُ إلى خطورة تفسير كل شيء بالدين، لكونه وهماً يعيقُ الفهم.

سبقَ لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر أن فسّر ظهور الثورة الصناعية في أوروبا بـ "الأخلاق البروتستانتية"، كما فسّر قيام دولة بحجم الولايات المتحدة الأميركية بهذه "الأخلاق البروتستانتية" أيضاً. كانت غاية فيبر الأساسية هي نقضُ الماركسية، فقدّم نظرية تناقضها بالتمام والكمال. لكن ما قيمة هذه النظرية اليوم؟ وهل هي مقبولة على الصعيد الأكاديمي؟ وهل هذه فلسفةٌ علمية أم لاهوتٌ مُتفلسِف؟!  إن تفسير وضع المجتمعات والدول، سواء كانت متخلفة أو متطورة، بالثقافة عموماً وبالدين خصوصاً، هو مثل غشاوة ورديّة تُوهم المرء بأنه قادرٌ على الرؤية من خلالها وصولاً إلى فهم الأمور. بينما هي غيمةٌ سوداء تحجب عنه الرؤية السليمة، وتمنعه عن الفهم السليم لأي ظاهرة.

وفي الموضوع ذاته، أوضّح بعضاً ممّا ذكرتُه في مقالي الأسبق "كيف ينظر الفُرس إلى العرب؟"، فعندما قلتُ إن هوية الأمة الإيرانية تقوم على العصبية القومية والعصبية الدينية الشيعية، فكان ينبغي الإشارة إلى أن هوية أيّ أمة أو جماعة أو فردٍ هي ليست كتلةً واحدةً متجانسة، إذ توجد صراعاتٌ وتناقضاتٌ لا تنتهي داخل الهوية الواحدة. كما أنّ الهوية ليست شيئاً ثابتاً وساكناً، بل هي في حالة حركةٍ وتغيُّـر دائمين. وعندما قلتُ إن إيران تستخدم العصبية الشيعية في التحشيد العقائدي، وفي تبرير التدخُّلات الخارجية؛ لم أقصد بذلك أنّ دولة إيران الحالية وإمبراطوريتها الصاعدة تقومان على العقيدة الشيعية، أو أنّ الدين هو الذي يقف وراء حروبها في المنطقة، إذ أعتقد أن للحروب أسباباً اقتصادية وسياسية في الغالب، أي هي صراع على المال والسلطة. كان لا بدَّ من هذا التعقيب والتوضيح، لكيلا أُحسَبَ من "ضحايا اليمين الهيغلي" دون أنْ أعلم!

كلمات مفتاحية