صعود اليمين المتطرّف.. أسبابه وخطورته

2019.09.25 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كان وصول ترمب إلى السلطة مع بداية العام 2017؛ بمنزلة الضوء الأخضر الذي لطالما انتظرتْه جماعاتُ اليمين المتطرّف في أوروبا، لكي ترفعَ أصواتها وتعلنَ عن شعاراتها وتطرحَ أيديولوجياتها القوميّة والشَّعْبَوية -والفاشيّة أحياناً- على الملأ.

وقُبيلَ وصول ترمب إلى السلطة، كانت أزمةُ البريكست بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي قد بدأتْ، ولكلتا الدولتين -أميركا وبريطانيا- التأثيرُ الكبير على دول القارّة العجوز. لقد ساهمَ ترمب بنقل الخطاب الشَّعْبوي والغوغائي والعنصري من مستوى الشوارع والحانات إلى مستوى قادة الدول، كما أنّ خروج بريطانيا الوشيك يهدّدُ وحدة الاتحاد الأوروبي ويعرّض الهُوية الأوروبية للتفكُّك، لكونه يعزّز من قوّة الخطاب المبني على الهُوية القومية/الوطنية لكلّ بلدٍ أوروبي على حدة.

في البداية لا يمكننا فصلُ اليمين المتطرّف كخطابٍ وأيديولوجيا عن القوميّة والشَّعْبَوية، فهو يستحضر عصرَ صعود القوميّات في بداية القرن العشرين، وما فيه من إعلاءٍ للذات القومية على غيرها من الشعوب، مستفيداً من موروثٍ أوروبيّ عريقٍ كانت النازيةُ والفاشية أبرزَ منتجاته. ولذلك فلا غضاضةَ في أنْ نصفَ فكْرَ اليمين المتطرّف بـ "النازية الجديدة" أو "الفاشية الجديدة" طالما أنه يستحضرُ أدبيّاتهما وتراثَهما. ومن طبيعة الخطاب المبني على هذا الفكر أن يكون شَعْبَوياً وديماغوجيّاً، فهو خطابٌ موجَّه إلى الغرائز وليس إلى العقول. نقطةٌ مهمة يجدرُ ذكرُها من أجل تحديد ملامح هذا اليمين الصاعد، وهي أنه ليس يمينيّاً من

إن صعودَ اليمين المتطرّف وخطورةَ هذا الصعود ليسَا أمراً موهُوماً أو مبالَغاً فيه، إذ إنّ أوروبا لم تشهدْ صعوداً لليمين بهذا الحجم منذ الحرب العالمية الثانية

الناحية الاقتصادية، أي ليس ليبرالياً، بل هو يتبنّى مفهوم "دولة الرَّفاه" المطبَّق في أوروبا الغربية والشمالية، ويعني تدخُّل الدولة من أجل تحقيق نظام تأميناتٍ اجتماعية جيّد للعمال والعاطلين عن العمل والمتقاعدين، ودعم القطاع الصحي وقطاع التعليم...إلخ. ومن هذه النقطة استطاعَ اليمينُ المتطرّف كسبَ أصوات العمال والطبقة المتوسّطة الدنيا، إذ هو يحاربُ اليسارَ الأوروبي بسلاحه التقليدي. ومن هذه النقطة استطاعَ اليمينُ المتطرّف الرَّبطَ ما بين الأزمة الاقتصادية والمهاجرين. (أستثني من ذلك حزبَ مارين لوبان ذا الجذور الليبرالية، فهو لا يتبنّى مفهوم "دولة الرفاه"، بل سياسة "حمائيّة" تُوصف بالوَسَطية).

إن صعودَ اليمين المتطرّف وخطورةَ هذا الصعود ليسَا أمراً موهُوماً أو مبالَغاً فيه، إذ إنّ أوروبا لم تشهدْ صعوداً لليمين بهذا الحجم منذ الحرب العالمية الثانية. وتبلغُ نسبةُ أحزاب أقصى اليمين في البرلمانات الأوروبية حسب تقرير منشور في موقع الـ (BBC) بتاريخ 24-5-2019: في السويد والنرويج وفنلندا وإيطاليا 17% من البرلمان، ثم ترتفع في الدانمارك إلى 21%، وتنخفض في هولندا وفرنسا إلى 13% على مقربةٍ من ألمانيا 12.6%، بينما تبلغ معدلاتٍ عالية في برلمانيّ النمسا وسويسرا 26% و29% على التوالي، أما النسبة الأخطر فنجدها في برلمان المجر 49%.

بدأ ناقوسُ الخطر عند فوز سيباستيان كورتز بمنصب مستشار النمسا في انتخابات عام 2017، بعد حملة انتخابية قامتْ على عداء المهاجرين وكراهية المسلمين وإحياء القوميّة النمساوية. وما إنْ وصلَ كورتز إلى السلطة حتى تحالفَ مع حزب أقصى اليمين "حزب الحرية"، وأعطاهُ وزاراتٍ سيادية، ومن يومها راحت الحكومة النمساوية تدعم جماعاتٍ متطرّفة ذواتِ أيديولوجيا نازية واضحة وصريحة، مثل منظمة "هوية الجيل" (Generation Identity). وبالمناسبة؛ فلم تقتصرْ خطورةُ هذه الحكومة اليمينيّة على بلدها (رغمَ سُقُوطها في أيار الماضي بعد فضيحة فساد)، إذ سبقَ لوزير الداخلية النمساوي أن طلب من رئيس وحدة مكافحة التطرّف في جهاز الاستخبارات أن يعطيه أسماء العناصر المكلّفة بمراقبة جماعات أقصى اليمين، فرفضَ رئيسُ الوحدة ذلك، مما كشفَ عن تستُّر بعض مسؤولي الدولة على هذه الجماعات. وهذا ما دفع الولايات المتحدة ودولاً أوروبيّة إلى القلق والتشكيك إزاء التعاون المعلوماتي مع النمسا، خوفاً من الحصول على معلومات مُضلِّلة، وخاصةً بعد التقارب الحميمي بين "حزب الحرية" اليميني المتطرّف والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وذلك حسْبَما أوردتْ صحيفة "نيويورك تايمز" بتاريخ 7-5-2019. ولا أتركُ النمسا دون الإشارة إلى أنّ واحداً من مسؤولي "حزب الحرية" قد نشرَ "قصيدة" يصفُ فيها المهاجرين بالجرذان!

تعود أسبابُ صعود اليمين المتطرّف إلى الأزمة المالية عام 2008، والتي وقعتْ آثارُها المباشرة على الطبقة العاملة والطبقة المتوسّطة، وكان من هذه الآثار خسارةُ الملايين لأعمالهم بشكلٍ كامل أو جزئي، اقتطاع الأجور وتخفيض امتيازات الرَّفاه، إحالة البعض إلى التقاعد وآخرين إلى التقاعد المبكّر بسبب العجز... وقد تمَّ تحميلُ مسؤولية هذه الأزمة على عاتق الأحزاب التي تتبنّى نموذج الدولة المتدخّلة في الاقتصاد والمجتمع، أي أحزاب العمّال واليسار الاشتراكي والديمقراطية الاجتماعية، واعتُبرت الأزمةُ دليلاً على فشل هذه الأحزاب في إدارة الدولة. ولذلك فإن كلَّ متضرّرٍ من الأزمة المالية، وكلَّ مَن يعاني من عدم الاستقرار الوظيفي أو الاقتصادي، هو محلُّ استقطابٍ من قِبَل اليمين المتطرّف ومرشَّحٌ بقوّة لتأييده.

بعد ذلك، صارتْ أحزابُ أقصى اليمين ترُدُّ مشكلاتِ البطالة وعدم الاستقرار الوظيفي وتخفيض امتيازات الرَّفاه إلى المهاجرين القادمين من خارج أوروبا، وتحديداً ما دُعيَ بـ "أزمة اللاجئين" عام 2015. إذ هُم يقولون للمواطن الأوروبي إنّ ما يعانيه من صعوباتٍ اقتصادية اجتماعية؛ تعودُ أسبابها إلى اللاجئين، فهم يزاحمُونه في سوق العمل أولاً، وهم يحمّلون الدولة أعباء مالية كبيرة تتمثّلُ في رواتب البطالة. وبالرغم من شَعْبَويّة هذا الطَّرح وعدم استناده إلى حقائق، إلا أنه يحقّق نتائجَ مُبهرةً لصالح اليمين. فإذا أخذنا دولة النرويج على سبيل المثال، فإنّ نسبة اللاجئين والمواطنين من "خلفيّة لاجئة" تبلغُ 4.4% من السكّان، فكيف لهؤلاء الـ 4.4% أنْ يُحدّدوا بعملهم أو بطالتهم الوضعَ الاقتصادي والاجتماعي لـ 95.6% من السكّان؟!

ومع موجة اللاجئين عام 2015، راحتْ أصواتٌ يمينية تُخوِّف من آثار هذه الهجرة على الهُوية الأوروبية، وتُحذّر من زوال "الثقافة الأوروبية" أو "الغربيّة"، وكذلك من "أَسْلَمة أوروبا". وتمثّلت النتائجُ المباشرة لهذا الخطاب في الازدياد الملحوظ لظاهرة رُهَاب الأجانب، وعداء المهاجرين، والإسلاموفوبيا الذي حلَّ محلَّ مُعاداة الساميّة من منظور المركز الأوروبي. ولكي نكون موضُوعيين، فلا يقوم هذا الخطاب على فراغٍ أو وهم، إذ سبقَ لعناصر إسلاميّة متشدّدة أنِ ارتكبتْ جرائم إرهابية في عديد من الدول الأوروبية. لكنّ خطورة هذا الخطاب اليميني لا تكمن هنا فحسب، بل تكمن في استدعائه لأسطورة تفوُّق العِرق الأبيض (White Supermacy) المرتبطة بتاريخ

لا يمكن لـ "أزمة اللاجئين" أن تكون هي السبب وراءَ مواقف اليمين المتطرّف الـمُؤَدلَجة والـمُستندة إلى تراثٍ ضارب في القدم

من الاستعمار والاستعباد وتجارة الرّقّ، وبأيديولوجياتٍ لم تجلبْ إلى أوروبا والعالم سوى المجازر والدمار. وبالتالي فهو خطابٌ يُهدّد الهوية الأوروبية، وكذلك الهوية الوطنية لكلّ بلدٍ أوروبي، بالتوازي مع أثره على المهاجرين.

يشير محلّلون أوروبيّون وعربٌ إلى أنّ تدفُّق أعداد كبيرة من اللاجئين إلى أوروبا، وصعوبة اندماجهم في المجتمعات الـمُضيفة، والفروق الثقافية، واحتمال ظهور عناصر إرهابية من بينهم؛ هي الأسباب الرئيسة وراءَ الصعود الـمُتَسارع لليمين المتطرّف في السنوات الأخيرة. لكنّني أعتقدُ أنّ هذا الأطروحة غير دقيقة، إذ لا يمكن لـ "أزمة اللاجئين" أن تكون هي السبب وراءَ مواقف اليمين المتطرّف الـمُؤَدلَجة والـمُستندة إلى تراثٍ ضارب في القدم، بل إنَّ ما فعلتْه "أزمة اللاجئين" هو أنها أيقظتْ ما هو راسخٌ في الذاكرة الأوروبية من استعمارٍ وتفوّق عنصريّ من ناحية، ومن الناحية الأخرى فقد استثمرتْ أحزابُ أقصى اليمين في "أزمة اللاجئين" وتاجرتْ بها؛ عن طريق تضخيم المخاوف الأمنيّة والثقافية والاجتماعية المترتّبة عليها.

وقبل الانتقال إلى مخاطر هذا الصعود؛ أشيرُ إلى نقطتين: الأولى هي أن الأزمات الاقتصادية الكبرى مثل أزمة عام 1929 وأزمة عام 2008، هي التربة الخصبة التي تنبتُ فيها التياراتُ المتطرّفة والحركاتُ المعادية للديمقراطية. النقطة الثانية هي أنّ خروج بريطانيا الوشيك من الاتحاد الأوروبي، قد شجّع الأحزاب القومية الانفصاليّة على رفع أصواتها بقوّةٍ وثقة، مثل "حزب البديل" في ألمانيا و"الجبهة الوطنية" في فرنسا.

في الحقيقة إنّ ظاهرة صعود اليمين المتطرّف لا تخصُّ أوروبا وحدها، ولا تهدّد المهاجرين المقيمين فيها فحسب، بل هي ظاهرة تهدّد العالم بأكمله. أولاً لأن الخطاب السياسي المبنيّ على تفوُّق الذات من جهة، وكراهية الآخر والتخويف منه من الجهة الثانية؛ هو خطابٌ لا يبني الأوطان، ولا يحقّق السلم الأهلي في المجتمعات. ولأنّ مَن يستسهل العنصرية تجاه المهاجرين و/أو المسلمين اليوم، لا يحتاج الكثير لكي يستسهل العنصرية تجاه اللاتين أو الهِسْبَان أو اليهود أو الكاثوليك أو أيّ جماعة بشرية أخرى. ثانياً لأنّ تطرُّف أقصى اليمين سوف يؤدي إلى تطرّف آخرَ عند أقصى اليسار، وإلى تطرّف ثالثٍ عند المهاجرين. والخطورة الثالثة هي خطورة مادية ومباشرة، إذ باتتْ أماكنُ تجمُّع المسلمين والمهاجرين هدفاً متوقّعاً لما باتَ يُعرف بإرهاب أقصى اليمين (Far-right terror). الخطورة الرابعة هي أنّ الخطاب الذي نسمعه من اليمين المتطرّف، في إيطاليا والنمسا وألمانيا وهولندا والدانمارك وأميركا والبرازيل... هو خطابٌ ما دون مستوى السياسة، فهو لا يعرض برامج سياسيّة واقتصادية وخدميّة كما يُفترض، بل يعتمد على إثارة الغرائز القطيعيّة في الناخبين، وعلى شَيْطنة الآخر والتخويف منه.