سوريون ما زالوا يناضلون من أجل الاستقلال

2023.04.12 | 06:53 دمشق

سوريون ما زالوا يناضلون من أجل الاستقلال
+A
حجم الخط
-A

يُحكى أن آخر جندي من الاحتلال الفرنسي قد غادر دمشق بتاريخ السابع عشر من نيسان في عام 1946 فكان ذلك اليوم هو يوم الاستقلال الفعلي لسوريا، وأصبح فيما بعد العيد الوطني للبلاد التي كانت أولى البلاد العربية في نيل حريتها.

لطالما جعلتنا تلك الحكاية التي رواها لنا أجدادنا في طفولتنا وشبابنا نشعر بالفخر والاعتزاز، فطغى ذلك الشعور على الحقيقة المرّة التي نعيشها كمواطنين في الوطن السوري المسلوب.

عرفت سوريا في تاريخها أكثر من استقلال الأول كان في 8 آذار/مارس 1920 بعد سقوط الدولة العثمانية وتولّي فيصل بن الحسين ملكاً للملكة العربية السورية، ثم بدأ الاستقلال الثاني في عام 1941 عندما قررت فرنسا تخفيض عدد جنودها في سوريا مع استمرار عدد من المؤسسات التابعة لفرنسا وبقاء المفوض السامي حاكماً فعلياً للبلاد، واستمرت عملية الجلاء خمس سنوات قبل أن يصبح عام 1946 هو عام الاستقلال الحقيقي من القوات الأجنبية.

لم يستقر الوضع السياسي في سوريا بعد الجلاء الفرنسي وبقيت عرضة للانقلابات العسكرية المتعاقبة، إلا أن وضع الحياة السياسية فيها كان أفضل حالاً مما أصبح عليه بعد تسلم حزب البعث السلطة وتقييد نشاط الأحزاب السياسية، وتغلغل النظام الأمني في مفاصل الدولة وتفاصيل الحياة العامة والخاصة.

في مناخ تعدد الأحزاب والانفتاح على الرأي الآخر واحترام حرية الرأي، استطاع حزب البعث التسلل بخبث إلى قلوب الجماهير عبر شعاراته المناصرة للعدالة الاجتماعية

تأمل السوريون ـــ وهم الشغوفون بالسياسة والعمل السياسي ــــ بعد خروج الفرنسيين بمناخ من الحريات يتيح لهم تحقيق حلمهم بدولة ديمقراطية حرة، دولة قانون وعدالة لا تخضع لقوى خارجية تتمتع باستقلال في تحديد سياساتها الداخلية والخارجية وعملوا كثيراً لتحويل ذلك الحلم إلى حقيقة.

في مناخ تعدد الأحزاب والانفتاح على الرأي الآخر واحترام حرية الرأي، استطاع حزب البعث التسلل بخبث إلى قلوب الجماهير عبر شعاراته المناصرة للعدالة الاجتماعية بين طبقات المجتمع وفئاته، والمدافِعة عن الوحدة الوطنية والقومية العربية، واستطاع أن يوسع شريحة المؤيدين له مع الوقت، لذا لم يواجه عقبات كثيرة عند تسلمه السلطة، خاصة أن الشعب كان قد وصل إلى مرحلة أُنهك فيها من عدم الاستقرار السياسي معتقداً أنه قد سلم البلاد في هذه الحالة إلى أيدٍ أمينة قبل أن ينكشف وجهه الحقيقي بعد فترة من تثبيت أقدامهم في الحكم.

عمل النظام السوري خلال فترة حكمه على قطع عُرى مكونات الشعب السوري بعضها مع البعض الآخر، على عكس ما كان يدعيه في كتب المناهج المدرسية أو الجامعية، فبات الإنسان السوري منا يعاني من فصام حاد بين المنطلقات النظرية التي يدّعي حزب البعث الحاكم تبنيها وبين الواقع الاجتماعي المزري والمفكك، وهذا بحد ذاته ليس سوى استمرار لتفكيك وحدة الصف السوري التي عمل عليها الاستعمار الفرنسي قبل جلائه.

علمانية الدولة الظاهرة كانت واهية تنهار عند أول مواجهة حقيقية مع مصالح ذوي النفوذ، أو لدى المطالبة بالاستفادة من مرونة الدستور أو تعديل القوانين، فكان النظام يحاول تشتيت انتباهنا باستنفار أجهزة مخابراته لتوجيه تركيز أنظار الشعب على حرب مُختلَقة مع الإسلام السياسي، من أجل التشويش على السقطات المتعاقبة والثغرات التي تبين حقيقته، علاوة على تعمده تطبيق سياسات أسست لحالة فساد إداري استشرى في المؤسسات المدنية والعسكرية.

تسببت ضرورة الاختيار بين الثنائية الأزلية العسكرة أو مواجهة سلطة حاكمة دينية متشددة بتغييب الحياة السياسية الحقيقية وحالت دون فهم حقيقة الواقع السياسي من دون مؤثرات، فأصبح همّ المواطن الأول نفي التهمة عنه وإثباته بأنه لا ينتمي إلى أي من الجماعات المتشددة المناوئة لحكم الأسد، بعد أن نصب نفسه وحاشيته مالكاً وحيداً للدولة وصاحب الأمر والنهي كونه السلطة الأعلى فيها المدافع عن هوية البلاد وفق ما يدّعي، فيما زج كل من يختلف معه في الرأي في أقبية السجون حتى من كان منهم من زملائه في الانقلاب العسكري الذي قاده إبان وصوله إلى الحكم واحتكاره السلطة.

احتكار الحياة السياسية وإدارة العمليات الانتخابية على أسس لا تمت للديمقراطية بصلة وإطلاق مخالب الأجهزة الأمنية على المواطنين، واعتقال النخب العلمية والفكرية التي تحاول انتقاد الوضع الذي آلت إليه البلاد، جعل الشعب يحاول تجنب تداول السياسة بشكل عام وأصبح غير معني بالوضع السياسي ومهتماً بسلامه الشخصي ونجاته من براثن الأجهزة الأمنية بعد أن كانت السياسة وجبته المفضلة.

لا يمكن حسم الاستقلال بجلاء جنود الاحتلال، ففي مقارنة بسيطة قد يتمنى الإنسان لو بقي الفرنسيون الذين بنوا جامعات وجسور ومكتبات في البلاد، ولو لم يقدر لنا أن نعيش مرحلة البؤس والتعذيب من تسلم الأب وابنه مقاليد الحكم في البلاد فحكموا بهدم كل ما سبق بشكل فعليّ مادي ومعنوي في آن.

كذلك لا يتمثل الاحتلال بوجود قوات أجنبية على الأراضي الوطنية فحسب، وإنما قد تعمل أنظمة الحكم أسوأ مما قد يفعله احتلال بتحويل مؤسسات الدولة إلى ثكنات عسكرية والسيطرة على القانون وتطويعه وفقاً لمصالحهم أو شلّ حركته تماماً، ووضع اليد على المناهج الدراسية والعلمية وتزوير التاريخ بصناعة بطولات وهمية وانتصارات زائفة، لتصبح الشعوب تحت تأثير مخدر وطني من دون أن تدرك أنها تعرضت لأسوأ احتلال عرفته البشرية، تحت حكم سرق الماضي والحاضر ومهد لسرقة المستقبل.

عقود طويلة مرت قبل أن تزعزع الثورة السورية ما اعتقد نظام الحكم في سوريا أنه ملكه إلى الأبد

ما زال السوريون يحتفلون في الموعد نفسه من كل عام مرددين أناشيد البعث وشعارات الوحدة الوطنية في المدارس ومؤسسات العمل المدنية والعسكرية في سوريا، من دون أن يلحظ كثيرون منا أننا ما زلنا رهن الاحتلال حتى ونحن نهتف بأعلى أصواتنا للحرية والديمقراطية.

عقود طويلة مرت قبل أن تزعزع الثورة السورية ما اعتقد نظام الحكم في سوريا أنه ملكه إلى الأبد، فكانت سيدة الصحوات التي جعلتنا ندرك كم كنا محرومين من حريتنا في المعتقلات وخارجها، لنبدأ سعياً حثيثاً لنيل الاستقلال الحقيقي، ونبدأ بمراجعة أفكارنا وأحكامنا المسبقة، ونكتشف أننا كنا رهيني الكتب المدرسية التي علمتنا أن البلاد مرهونة لاسم شخص واحد، احتكرها وجعلها مرتبطة باسمه وبعائلته، لكنه لم يصنع من تاريخها سوى الحروب والمجازر وبنى من المعتقلات والسجون أكثر مما بنى من المدارس والجامعات.