سؤال السويداء بعيداً عن رومانسية ساحة الكرامة

2023.09.14 | 06:07 دمشق

سؤال السويداء بعيدا عن رومانسية ساحة الكرامة
+A
حجم الخط
-A

وأنا أتابع ما يحدث في ساحة الكرامة في مدينة السويداء خلال هذه الأيام من اعتصامات يومية وتجمعات وتحويل الساحة إلى مركز للنشاطات الفنية والثقافية: موسيقا وغناء وشعر ورسم ونحت وكل أنواع الفنون الأخرى مترافقة مع موقف سياسي جذري وواضح الرؤية والأهداف، وبالغ الوعي من حيث تجنب الأخطاء القاتلة التي وقعت فيها الثورة السورية خلال نهاية سنتها الأولى وبداية الثانية، قبل أن تتحول إلى حرب مجنونة وعبثية هزمت الثورة وأعادت مناطقها إلى عصور الانحطاط، بعد أن استقطبت تلك الحرب كل مرتزقة الأرض، لتصبح سوريا بكل مناطقها محتلة من قبل احتلالات مختلفة الشكل والهوية.

وأنا أتابع ما يحدث هناك لا أستطيع أن أبعد عن ذاكرتي الأشهر الأولى للثورة حين كان حلم جميع من أيدوا التغيير هو هذا النوع من الاعتصامات المدنية التي كانت تظهر عمق الشخصية السورية الحقيقية، شخصية مدنية واعية وناضجة ومبدعة ومتعالية على الهويات الضيقة لصالح الهوية الوطنية الحقيقية ولصالح المواطنة التي كانت مطلبا أساسيا من مطالب التغيير يحلم به السوريون الثائرون، بوصف المواطنة الحقيقية هي السبيل الأول نحو تأسيس دولة حديثة ديموقراطية ومجتمع حيوي ومتجانس رغم كل الاختلافات التي به.

من ينسى الاحتفالات والسهرات في البلدات الصغيرة في ريف دمشق وباقي البلدات السورية الثائرة والتي كانت تتحول إلى سهرات شعبية بالغة الجمال؟

نعرف جميعا، نحن الذين عايشنا بدايات الثورة عام 2011 وانخرطنا بها بشكل أو بآخر، سواء شخصيا أو عبر مشاهداتنا ونقاشاتنا مع أبنائنا وأصدقائهم ممن كانوا من الرعيل الأول للثورة، إن العصيان المدني كان هدفا رئيسا من أهداف الثورة ذلك الوقت، وإنهم لم يوفروا طريقة من طرق الاحتجاج المدني إلا واستخدموها، نتذكر جميعا ما حصل في دمشق وباقي المحافظات: ظاهرة الرجل البخاخ، المظاهرات الطيارة، وضع صبغة حمراء في التجمعات المائية كدلالة على الدم السوري الذي بدأه النظام، الكتابات الضوئية المطالبة برحيل النظام على جبل قاسيون، أغاني القاشوش التي كانت تصدح فجأة في قلب ساحات العاصمة وتثير جنون عناصر الأمن، مظاهرات اللون الأبيض واللون البنفسجي، طابات البينغ بونغ التي كتب عليها عبارات ثورية والتي ألقيت على دمشق من أعالي جبل قاسيون، مجسمات بشار الأسد المشنوقة المعلقة على الجسور في قلب العاصمة! من ينسى المظاهرات في كل المدن والأغاني الثورية التي كتبت خصيصا للمظاهرات والتي كانت تدعو إلى الوحدة الوطنية؟

من ينسى الاحتفالات والسهرات في البلدات الصغيرة في ريف دمشق وباقي البلدات السورية الثائرة والتي كانت تتحول إلى سهرات شعبية بالغة الجمال؟ من يمكنه نسيان ذلك رغم ما حدث ورغم كل المحاولات التي تمت لطمس هوية الثورة الشعبية المدنية لصالح العسكرة والأسلمة والتخلف والعنف وإلباس الثورة هوية دينية وطائفية مدعمة بتمويل مهول وبطابور خامس يستخدم وسائل التواصل لتشويه الصورة المدنية في الثورة السورية؟

قد يكون من المفيد التذكير أن لنظام الأسد اليد الأولى في تغيير هوية الثورة، ليس فقط بسبب الحل الأمني الذي اعتمده منذ البداية، ولا فقط بسبب العنف والإجرام الذي أظهره ضد الثائرين، وإنما أيضا لأنه فهم وعرف كيف يستفيد من الثغرات التنظيمية في تنسيقيات الثورة، ومن قلة خبرة السوريين بالعمل السياسي المعارض، ومن براغماتية الحزب الوحيد المنظم (الإخوان المسلمون)، فعمل على دفع عناصر له إلى قلب الثورة وضخ إليها إسلاميين متطرفين ممن كان يستخدمهم في تحالفاته القذرة ويعتقلهم ويطلقهم وقت يشاء، في الوقت الذي عمل على تفريغ الثورة من غالبية مدنييها سواء بالقتل المباشر أو بالاعتقال والإخفاء أو بتسهيل هروبهم إلى خارج سوريا. وأيضا من المفيد هنا الاعتراف أن غالبية مدنيي الثورة ورعيلها الأول استسهلوا الخروج والهروب خوفا من بطش النظام وحفاظا علي سلامتهم من الأذى من جهة، ومن جهة ثانية كان هناك اعتقاد سائد أن المجتمع الدولي لن يسمح للنظام بالتمادي في إجرامه وسوف يعمل على إسقاطه بطريقة ما سواء عسكرية أو عبر الضغط السياسي المباشر؛ ما يعني أن الخروج من سوريا سيكون مؤقتا والعودة قريبة لمباشرة البناء لسوريا الجديدة؛ لكن تبين أن تلك الحسابات كانت خاطئة والرهان على المجتمع الدولي يشبه الرهان على ضمير النظام وتفضيله مصلحة سوريا على بقائه؛ هكذا وقع الجميع في الفخ، الثوار والثورة نفسها حتي وصلنا إلى ما وصلنا إليه من هزيمة كبيرة طالت سوريا ومجتمعها من أقصاها إلى أقصاها، دون أن يخطر في بال أية جهة ثورية تنظيمية أو رسمية إجراء مراجعة علنية أو سرية لما حدث، لفهم الأخطاء القاتلة التي وقع بها المسار الثوري السوري، ولإعادة صياغة بنى ثورية جديدة ووضع استراتيجيات ذات رؤى وطنية وخطاب سوري ثوري وطني جامع ومدني ديموقراطي لا يمت بصلة للخطاب السابق: الخطاب الطائفي والفئوي الذي ساد لسنوات والذي لم يكن سوى نسخة مشوهة عن خطاب النظام نفسه.

في مسرحية جبال الصوان لفيروز والرحابنة، لمن يعرفها، هناك حوارية بين فيروز/ غربة وبين أهل جبال الصوان يقترح فيها أهالي الجبال أن يتم الطلب من أقاربهم في الخارج ممن غادروا الجبال لمحاربة فاتك المتسلط من الخارج، فترد غربة قائلة: "اللي بيحاربوا من برا بيضلهن برا، المصدر جوا"! أثبتت السنوات السورية السابقة صوابية هذه الرؤية الرحبانية القديمة، ذلك أننا الذين خرجنا من سوريا لم نعد قادرين على القيام بأي فعل ثوري خارج التنظير والتبجح عبر وسائل التواصل، لنكن واقعيين ونعترف بهذا، حتى في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام لم تتمكن من أن تكون مركزا للناشطين يعودون إليها لاستعادة الموقف الثوري، ليس فقط لأنهم ترهلوا نفسيا عبر السنوات الماضية وأصيبوا بيأس معطل وفقدوا أي شغف للعمل الثوري، بل أيضا لأن تلك المناطق ليست محررة كما يقال عنها، بل هي واقعة تحت سلطات أمر واقع لا تقل لا إجراما ولا تعسفا ولا ظلما عما يفعله نظام الأسد، هي دليل مضاف على هزيمة الثورة من حيث وضعها تحت حماية دول خارجية من جهة ومن حيث استهدافها المتواصل من قبل النظام وحلفائه. ما يعني، بشكل مؤكد، أن أي تغيير لا بد أن يكون من الداخل فقط، من قلب سوريا، من قلب مناطق النظام حيث يعيش السوريون في أسوأ ظرف معيشي وإنساني يخطر في البال.

ما يحدث في السويداء هو الحالة المثالية للثورة بكل رومانسيتها وجمالها. لكن ثمة ما يجب الحديث عنه هنا، وهو موقف النظام مما يحدث في السويداء وتراخيه في اعتماد الحل الأمني

ما يحدث في السويداء اليوم قد يكون هو النواة الأولى للتغيير المطلوب، ذلك أن المحتجين يطلقون الخطاب الثوري المطلوب، المدني والتوحيدي والديموقراطي الرافض للتسليح وللتطييف واللانقسام وللتمويل وللتدخل الدولي الذي لم يتسبب إلا بكوارث مضافة للكارثة السورية. ما يحدث في السويداء هو الحالة المثالية للثورة بكل رومانسيتها وجمالها. لكن ثمة ما يجب الحديث عنه هنا، وهو موقف النظام مما يحدث في السويداء وتراخيه في اعتماد الحل الأمني كما هدد رأس النظام في مقابلته الأخيرة مع سكاي نيوز حين قال إنه لو حدث الآن نفس ما حدث 2011 لاعتمد نفس الحل الذي اعتمده! ما الذي يجعله إذا ينسحب من السويداء ويترك الجبل لسكانه المحتجين دون أي تدخل أمني حتى الآن؟ وماذا سيكون موقفه لو حدث هذا في دمشق أو حماة أو اللاذقية مثلا؟ هل سينسحب أيضا ويراقب ما يحدث دون تدخل أمني أم سوف يصب جام غضبه على سكان تلك المدن؟

هل للسويداء وضعها الخاص المستند على توازنات إقليمية لا تتمتع بها باقي المحافظات السورية، أم أن ثمة ما ينبئ بتغير الموقف الدولي والعربي من نظام الأسد يجعله يحجم عن استخدام العنف ضد المدينة؟

أثبتت التجربة السورية أن نظام الأسد لا يتورع عن فعل أي شيء ليوقف أي احتجاج ضده، قتل قصف اعتقال تدمير حرق! كل شيء، وما صمته عما يحدث في السويداء مقابل استمرار اعتقاله لأصوات داعمة لحراك السويداء من محافظات الساحل سوى تأكيد على استراتيجته الإجرامية تلك. وهذا يستدعي سؤالا مهما: إلى أين سوف يمضي حراك السويداء؟ وهل سوف يكون هو نواة حل سياسي يفرضه المجتمع الدولي، رغم الخبرات الفاشلة مع المجتمع الدولي؟ أم هل ستكون السويداء شرارة الانفجار في باقي المحافظات السورية رغم الخوف الواضح والجلي لدى الكثير من السوريين من أي تغيير، خصوصا لدى سكان الساحل السوري ودمشق؟