رأي عابر في مسألة التجمعات السياسية المستجدة

2023.06.28 | 07:28 دمشق

آخر تحديث: 28.06.2023 | 07:28 دمشق

المعارضة السورية
+A
حجم الخط
-A

لم يتوقف سوريون طيلة السنوات السابقة عن صناعة تجمعات سياسية يقدمون من خلالها أنفسهم ومطامحهم، متبنين رؤى سياسية، ومشاريع ترسم شكل الوطن الذي يرمون إليه.

وقد كان من اللافت على صعيد هذه التجمعات بحد ذاتها أنها كانت تمر في الفضاء المنشغل بالواقع الميداني دون أن يلتفت إليها أحد، وأن ما كانت تقدمه على المستوى النظري كان ينطلق من الأساسيات التي طرحتها ثورة الكرامة منذ العام 2011، والتي لا تختلف عما طالب به السوريون عموماً، منذ أن استولى الاستبداد على البلاد في العام 1963، وتوليه تدميرها بعد قدوم حافظ الأسد على السلطة في العام 1970.

ظهور تجمع سياسي هنا أو هناك، ومن خلال التداول الشعبي، وفي منطوق وفهم الفضاء العام السائد على وسائل التواصل الاجتماعي لا يقابل بالترحيب وبالتصفيق، بل إنه يتلقى ومنذ ظهوره جرعة عالية من التشكيك بالدوافع الشخصية للمتجمعين، وصولاً إلى تأطير فعالية هؤلاء بالحصول على بعض المساحة في الفضاء العام، وبالتالي حصولهم على بعض الدعم المادي من "الجعالات" التي تقدمها وزارات خارجيات الدول المعنية بالملف السوري، أو غيرها.

هل يتفارق المتداول الشعبي عن واقع التجمعات السياسية المنقضية العهد، وعن سلوك المشاركين فيها، إن لم نقل أصحابها؟ هنا ثمة إجابتان:

نعم إنه يتفارق من جهة التشكيك الدائم بالنوايا، حيث إن بحث الناشطين والسياسيين عن أشكال ينطلقون منها للدخول والانتشار في الفضاء العام يجب ألا يفهم على أنه محاولة للترزق، بل يجب أن يرى على أنه فعل ديموقراطي أتاحته الثورة وتضحياتها.

وهو أيضاً، لا يتفارق إذا ما كانت الأمثلة التي يمكن سوقها تتلخص بتجار الشنطة السياسية، وهؤلاء فئة من المترزقين الذين يميلون مع الأقوى، ويبحثون دائماً عن الفرص للظهور والربح حتى وإن اضطرهم الأمر لنقل البندقية من كتف إلى آخر.

هل يتفارق المتداول الشعبي عن واقع التجمعات السياسية المنقضية العهد، وعن سلوك المشاركين فيها، إن لم نقل أصحابها؟

غير أن الإجابة الراسخة على السؤال يقدمها الواقع ذاته، حيث لم يبق من كل التجارب التي نشأت سابقاً سوى أسمائها، وإذا عرف القارئ بأن القوى والتنظيمات التي توقع على البيانات العامة يتجاوز عددها المئات، فإن الاستفهام عن حقيقة وجودها وفعالياتها سيؤدي إلى تبيان حجم استسهال البعض لفكرة التجمع السياسي، وتحولها فعلياً إلى مجرد مضافات عائلية وعشائرية وطائفية، إن لم نقس عليها ونقول عنها إنها دكاكين!

يهدأ ظهور الروابط والأحزاب والتجمعات والتحالفات العابرة حيناً، وينشط أحياناً أخرى، وفق إيقاع تتحكم به الظروف السياسية، وهنا نتذكر موجة عارمة من ظهور هذه الأطر حدثت في عام 2011 عندما شككت القوى الدولية باجتماع المعارضة السورية على مطالب واحدة، ما أدى إلى ظهور "المجلس الوطني" الذي ما زال حاضراً حتى الآن بلا فعالية، والذي سلّم عصى السباق إلى "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة" الذي يتولى تمثيل المناهضين للنظام في بعض المحافل الدولية، بالاشتراك مع منصات أخرى كمنصتي القاهرة وموسكو!

في المقابل تلعب الظروف الميدانية دوراً مضاداً للسياسة أو الفعل السياسي، فخلا تجربة الحرية النسبية التي تمتع بها سوريون في المناطق التي خضعت لفترة قصيرة لسيطرة الجيش الحر، لم تسمح سيطرات القوى الجهادية المتطرفة بأي نشاط سياسي، لا بل إنها قامت بإبادة المتورطين بهذا النشاط، واضعة إياه في مصاف الكفر الصريح الذي يستوجب العقاب.

وهنا لن تشكل تجربة المناطق الخاضعة لسيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) رغم الفضاء المختلف كلياً، فرقاً كبيراُ عن المشهد السابق إلا في حجم العقاب الذي تنزله هذه القوة العسكرية بالمعارضين لسياساتها، فرغم أن السياسة مرحب بها، مع وجود مؤسسة تمثيل لها هي "مجلس سوريا الديموقراطية" (مسد)، إلا أن تجربة علاقتها بالمجلس الوطني الكردي واضحة ولا تخفى، فقسد ترحب بأي قوة سياسية تصفق لها، ولا تفعل الأمر ذاته مع الذين يفترقون بتوجهاتهم عنها، إلا إن كانت لها مصلحة ما في وجودهم!

نتحدث هنا عن ماضٍ مستمر بفعل الوضع السكوني الذي يمسك بالمشهد السوري العام، لكن الشهر الماضي حمل في مجريات أحداثه ظهوراً غير متوقع لبعض الأجسام السياسية، التي لم تغادر من ناحية الخطاب السياسي ما هو متفق عليه عموماً، ولعل ما يختلف به كل جسم عن سواه لا يخرج عن إطار التنقيحات الاستنسابية للنص المتاح أو المتداول للنقاش، ومثال هذا ما شهده "مشروع وثيقة توافقات وطنية" الذي طرحه عدد من الديموقراطيين السوريين برعاية من مركز حرمون للدراسات المعاصرة.

ما فاض به هذا التدفق للإعلانات عن هذا التجمع أو ذاك يبدو من جهة الظاهر إيجابياً، وخاصة أن فكرة الترابط -أو على الأقل الاتفاق وتوقيع البيانات المشتركة- بين المتشابهين مهمة وتسهل وصول جبهة معارضة متفقة لا متفرقة، وضمن هذا الإطار يكون من الجيد أن تتجمع مؤسسات وجمعيات المجتمع المدني في إطار "مدنية" التي عقدت مؤتمرها في باريس، وأن يأتلف ناشطون وسياسيون في الاجتماع التأسيسي لمؤتمر القوى الوطنية السورية في باريس أيضاً، وأن تتفق "هيئة التنسيق الوطنية" مع مجلس سوريا الديمقراطية" (مسد) على وثيقة تفاهم. وأيضاً أن تظهر هنا أو هناك تجمعات لمن لا يجدون أنفسهم هنا أو هناك، في إطار بحثهم عن لون وطعم ورائحة تخصهم!

لكن ما هو غير إيجابي أن تنطلق نوابض كل ما سبق من الوضع المستجد الذي تسببت به خطوات الانفتاح العربي على النظام الأسدي، وبما يُشعر المتابع بأن الشريحة السياسية التي نشأت على هامش الثورة بدأت تتلمس رأسها مخافة أن تتجاوزها تداعيات الواقع المتحرك!

وهنا يصدق الوعي الشعبي في تناوله لكل من سبق ذكرهم، أو تمت الإشارة لهم، فهو يسأل ولطالما سأل قبل هذه اللحظة: إذا كانت لديكم القدرة على تذليل الاختلافات بينكم إلى هذه الدرجة وبهذه السهولة، لماذا أهدرتم كل هذا الوقت ولم تفعلوا؟ ولماذا تأتي تجمعاتكم بالوجوه ذاتها وكأنكم تأبدتم في السياسة دون أن تراجعوا مواقفكم وتعلنوا أين أخطأتم وأين أصبتم؟!

فَقدَ السوريون الرجاء بالنظام الذي حكمهم بالقمع والحديد والنار، فلم يتوقعوا منه أبداً أن يراجع سياسته أو أن يكاشف مواطنيه بشيء ما، لكن ألا يستحق هؤلاء وبعد كل التضحيات التي بًذلت أن يكاشفهم معارض سياسي واحد بما فعل وبما أصاب وأين فشل، وهل بات من المستحيل أن يعلن أحدٌ ما عن اعتزاله بسبب العجز أو الفشل؟