ذاكرة الفيس بوك كشاهد حيادي على الحدث

2022.10.19 | 07:25 دمشق

ذاكرة الفيسبوك كشاهد حيادي على الحدث
+A
حجم الخط
-A

لحسن الحظ أنه توجد في الفيس بوك خاصية الذاكرة التي يمكن من خلالها استعادة ما دوناه في مثل هذا اليوم قبل السنوات الماضية، وأقول حسن الحظ لأنه من الصعب أن يتذكر الشخص منا ما كتبه إن لم يكن مدونا، قد نتذكر طريقتنا في التفكير وكيف كانت أحلامنا، وقد نتذكر الأحداث والعلاقات، لكن تعبيرنا المكتوب حولها وتعليقنا عليها، هذا بالفعل يحتاج إلى استعادة قراءة، ولم نكن لنفعل ذاك لولا هذه الخاصية، أقصد لم نكن لنحاول البحث في مدونة الفيس بوك في كل يوم عن اليوم الدي يشبهه في الأعوام السابقة، كنا سننسى ماذا كتبنا وماذا قلنا ومع من اختلفنا في النقاشات، وحول ماذا كانت خلافاتنا، خصوصا الخلافات في الرأي حول مجريات الثورة وأحداثها ومآلاتها، ومن منا كان واعيا بما ستصل إليه ومن منا كان حالما أكثر مما ينبغي.

سندخل في العام الثاني عشر لبداية الثورة قريبا، ومعها استخدامنا للفيس بوك كوسيلة من وسائل تدوين الحدث اليومي السوري والعربي، هذه الوسيلة هي الشاهد الأقوى والأكثر حضورا على كل ما قلناه وتمنيناه وحلمناه أو حتى على معظم الأحداث التي وقعت، ما كان مزيفا منها وكاذبا وتم اكتشاف تزييفه لاحقا واكتشاف أثر التزييف السلبي والإيجابي، وما كان حقيقيا وواقعا وأيضا أثر تلك الحقائق بسلبها وإيجابها. سجلت صفحات العالم الأزرق كل شيء، وكشفت كل ما نفكر به بغض النظر إن كان من يدون بها الأحداث والوقائع والقصص هم شخصيات حقيقية أم شخصيات مستعارة الأسماء والهويات، فما تم تدوينه في هذا الفضاء هو جزء بالغ الأهمية من تاريخ سوريا، أو بالأصح أحداث السنوات الأكثر خطورة وافتراقا في تاريخ سوريا القديم والحديث.

النقاشات والخلافات التي كانت تحدث على فيس بوك كان فيها من العنف والغضب ما يعكس الحال الذي وصلت إليه سوريا

لدي هذه العادة اليومية: أن أفتح ذاكرة الفيس بوك في صفحتي وأقرأ ما كتبته في السنوات الماضية كل يوم، وأنتبه أنني بدأت التخفف من الكتابة عن سوريا وما يحدث فيها منذ حوالي ستة أعوام تقريبا، ارتبط التوقيت عندي بتعرضي لأزمة صحية قلبية كادت تودي. قال لي الطبيب المعالج بعدها: عليك تناول الحبوب المهدئة والابتعاد عن كل ما يسبب لك التوتر والغضب والقلق، كان الأمر لي أشبه بمحاولة التخفف من الإدمان، أن أحاول الابتعاد عن نشرات الأخبار، والتوقف عن عادة تصفح الفيس بوك لمعرفة ما يحدث في سوريا وثورتها وما يحدث للسوريين في الداخل والخارج، والابتعاد عن المشاركة في أي نقاش يتعلق بسوريا وثورتها، ذلك أن النقاشات والخلافات التي كانت تحدث على فيس بوك كان فيها من العنف والغضب ما يعكس الحال الذي وصلت إليه سوريا، كنا نتشرب هذا العنف ونتمثله دون أن ندرك كم أصبحنا معطوبين من الداخل، وكم ترك هذا من أثر سيئ على حالاتنا الصحية والنفسية. كلنا نعرف كم الأمراض التي أصيب بها السوريون، أمراض منشؤها الأساسي نفسي وتوتري، جلطات وأمراض قلب وأورام، عدا عن الذين فقدوا حياتهم فجأة وهم في أوج شبابهم خارج سوريا نتيجة توقف قلب مفاجئ أو جلطة دماغية. طبعا يعرف كثيرون أيضا أن عددا ليس قليلا من خيرة شباب وشابات الثورة في الخارج قد أصيب باكتئابات واضطرابات نفسية بالغة الخطورة، وأن بعضهم يعيش في مصحات نفسية، أو انسحب من الحضور تماما من وسائل التواصل ومن العلاقات مع رفاق الثورة.

اليأس والهزيمة والخيبة والحزن نتيجة ما حدث هي المآلات التي أصابت السوريين خصوصا بعد عام ٢٠١٤ حين اكتملت الثورة المضادة المتمثلة بسيطرة الكتائب الجهادية المتطرفة على المناطق التي حررها الجيش الحر، وابتدأت مرحلة أخرى من حياة الثورة السورية وحياة السوريين في الداخل والخارج، كان فيها الانقسام أكثر تطرفا من الانقسام الذي حدث في بداية الثورة في المجتمع السوري، إذ إن الانقسام هذه المرة كان في مجتمع الثورة نفسه، وكان هذا دليلا مؤكدا على أن ما يحدث هو ثورة مضادة مكتملة الأركان.

منذ ذلك الوقت سيطر خطاب العنف على الخلافات بين سوريي الثورة على وسائل العالم الأزرق، يمكننا جميعا العودة إلى ذاكرة الفيس بوك والانتباه كيف كان ينمو شهرا وراء آخر، خطاب عنف وكراهية وغضب حملناه جميعا ضد بعضنا الآخر، واستسهلنا التخوين والشتائم والاتهامات والتشويه، مثلما كان المسلحون على الأرض السورية من كل الأطراف المتقاتلة يستسهلون القتل والقصف والقنص والقذائف والإعدامات والتعذيب. كان الفيس بوك صورة عن الواقع غير أن القتل فيه كان بالكلام والكراهية الموجهة والمتبادلة. أفكر الآن أنه منذ ما قبل ٢٠١٤ ونحن نكتب على صفحاتنا الشخصية والعامة عن الخوف من أن ما يحدث من سيطرة للإسلاميين الجهاديين سوف يكون وبالا على الثورة، ومع ذلك ثمة اليوم في عام ٢٠٢٢ من يتعجب مما يحدث في الشمال السوري على أيدي نفس الكتائب التي قصمت ظهر ثورة السوريين وأحلامهم بالتغيير! لو يعودوا إلى ذاكرة الفيس بوك لعرفوا كيف بدأ كل ذلك ولماذا بدأ.

تؤكد تدويناتنا على فيس بوك كل أحلامنا في السنة الأولى للثورة رغم العنف الذي بدأ منذ اللحظة الأولى من قبل النظام ضد الحالمين

بكل حال، الهزيمة حلت بنا منذ ذلك الوقت، منذ أن انقسمنا نحن أنفسنا الذين آمنوا بالثورة، منذ أن بدأنا نتصرف كما لو أننا أعداء، تماما كما حدث في بداية الثورة بين السوريين المختلفين حول النظام والثورة. رغم أن العداء وقتها كان واضحا ومباشرا وعنيفا من جهة مؤيدي النظام، في الوقت الذي كان فيه شباب الثورة ومثقفوها وأهلها في كل سوريا محملين بخطاب وطني عاطفي جامع تجاه سوريا التي شعروا لأول مرة أنهم ينتمون لها وتنتمي لهم، وتجاه السوريين جميعا الذين كان من المتوقع ان يلتحقوا بالثورة قريبا كي تكون ثورة تغييرة شعبية شاملة.

تؤكد تدويناتنا على فيس بوك كل أحلامنا في السنة الأولى للثورة رغم العنف الذي بدأ منذ اللحظة الأولى من قبل النظام ضد الحالمين، تؤكد أيضا ذلك الفيض من العاطفة التي غمرتنا تجاه بعضنا البعض، تؤكد كيف اختفت كل الخلافات التي كانت سائدة بين المثقفين السوريين على مسائل بينت الثورة كم كانت تافهة. أتذكر الآن وأنا أقرأ ذكريات الفيس بوك كم كنا متعاضدين ومتحابين وملمومين على حلم واحد.

لكن الهزيمة نكراء، ولا بواكي لها، هكذا، بعد انتصار الثورة المضادة وانكسار أحلام التغيير، لم يبق من ذلك الحب شيء، لا تجاه سوريا ولا تجاه بعضنا البعض، والأمراض التي كانت موجودة في المجتمع السوري ومتوارية قبل الثورة انفجرت بوضوح شديد بعد هزيمة الأحلام. لم يعد للمشترك في الحلم والعمل أي وجود، انسحب الجميع نحو الحلول الفردية في تأمين العيش والاندماج لمن هم في الخارج مكتئبين ومعزولين وانطوائيين إلا لمن كانت أعصابه بالغة القوة، ومقهورين ومعزولين يفكرون بمحاولات تأمين أدنى مقومات العيش بعد أصبحت الكرامة مفردة قاموسية في داخل سوريا.

أما الحلم والأمل والثورة والتغيير والمستقبل والوطن والمجتع المتلاحم والمدنية والعلمانية وفصل الدين عن الدولة واحترام المقدسات واحترام الرموز والسخرية من الحرب الأهلية والسخرية من مصطلح الإرهاب، وغيرها الكثير فهي مفردات موضوعة في جمل جميلة يمكن أن نعثر عليها في ذاكرة الفيس بوك السوري فقط، أما الواقع واليوميات الحالية فهي شيء مختلف تماما لا يمت لتلك المرحلة بصلة.