دمى متحركة!  

2023.06.28 | 07:27 دمشق

آخر تحديث: 28.06.2023 | 07:27 دمشق

دمى متحركة
+A
حجم الخط
-A

قبل أيام شاهدت فيديو على منصة "تيك توك" يتضمن دمية متحركة مربوطة من كل عضو فيها بخيط معلق بأصابع محرك الدمى الذي لا يظهر عادة عندما يقدم استعراضه، لكنه في هذا الفيديو هو ظاهر تماما ليروي لنا عبر هذا المشهد غير المألوف حكاية قصيرة من خلال تحريك الدمية فحسب.

يحرك الرجل الدمية بطريقة تجعل يدها اليسرى تلامس ساقه مصادفة فتلتفت إلى الخلف لتتبين الشيء الذي لامسته لتدرك أنها ساق رجل ثم ترفع رأسها في محاولة لمعرفة من صاحب الساق التي لامستها، لتشاهد رجلا يحرك كفيه يمنة ويسرى ترتبط هي مع يديه بمجموعة خيوط.. تدرك عندها الدمية أن كل حركاتها وسكناتها ليست من فعل إرادي حر تقوم به هي وإنما بقرار وحركة محرك الدمى لتمنحنا من خلال تعبير وجهها شعورا بالصدمة والانكسار بالنظر إلى أنها أدركت للمرة الأولى حقيقة لم تكن سابقا تدركها أنها ليست كيانا مستقلا بذاته يقرر متى يتحرك ومتى يتوقف ومتى يستدير.. هي كلها أفعال يقوم بها ذاك الرجل الذي عقدت في   أصابعه  تلك الخيوط المتصلة بالدمية وأنها مجرد دمية لا روح لها تعكس فرحها هي ، لا فرح محرك الدمى، ولا عقل لها يقرر شيئا لم يقرره عقل محرك الدمى  ، تستدير مرة أخرى لتتثبت من صحة استنتاجها وتنظر للأعلى، لوجه محرك الدمى ثم تحني رأسها بانكسار وتنظر إلى يدها وساقها اللتين تتحركان دون قرار منها ثم تطأطىء رأسها مجددا في إيحاء لنا أنها وصلت لحظة الوعي بالذات وأدركت بهذا الوعي أنها محض عدم.

هذا المشهد المكثف في أقل من دقيقتين هو تماما التعبير الحي والمباشر عن حال المجتمعات العربية وقادتها ومعارضاتها ومنظماتها ودولها.. هي ليست في حال مختلف عن تلك الدمية المستلبة، مجرد قطعان كبرى من البشر تحركها الغرائز باعتبار أن العقل وعملياته المفترضة لإدراك الذات والاحتياجات وموجبات الانتقال للعيش في شروط العصر الحديث ماتزال في إجازة اختيارية أو إكراهية لا فرق. 

هذا المشهد المكثف في أقل من دقيقتين هو تماما التعبير الحي والمباشر عن حال المجتمعات العربية وقادتها ومعارضاتها ومنظماتها ودولها.. هي ليست في حال مختلف عن تلك الدمية المستلبة

نحن لسنا إلا تلك الدمية التي تحركها وتعبث فيها خيوط رجال الدين ممن يريدون إعادتنا إلى الوراء آلاف السنين إلى ما يعتبرونه أو يفترضونه "الفردوس المفقود"ويرفضون نمط إيماننا وتعبدنا ما لم يكن على الشكل الذي يعتقدونه أو يتوهمونه لافرق، فالحداثة والتحديث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار (!!!).

نحن لسنا إلا تلك الدمية التي اتخذت شكل معارضة مفترضة أو متخيلة، تحركها أياد إقليمية ودولية ضمن مساحات المسرح كيفما قررت أصابع محرك الدمى.. تلك الأصابع تقرر أن نحمل السلاح فنفعل وأن نقاتل هنا ونتوقف هناك فنفعل ، وأن نخمد الجبهات ونبرّد السبطانات فنفعل .. وأن نذهب إلى جنيف وإلى الدوحة وإلى الرياض فنفعل.. ثم تقرر أن نبحث في الدستور سنين ونخرج بخفي حنين فنفعل وأن نسلك مسار آستانا ونقدم الأجزاء تلو الأجزاء مجانا فنفعل.. ما أتعسنا وما أتعس تلك الدمية التي تؤمر فتطيع.

منظمات المجتمع المدني أيضا جزء من مسرح الدمى هذا وليست بعيدة عنه أبدا، قد تكون خيوطها أطول وتتيح لها هوامش حركة أوسع، لكن تلك الحركة تبقى ضمن مساحة خشبة المسرح بالضرورة، وتبقى مشاريعها ضمن سياق ونسق يقرره المايسترو أيضا ولست وحدك من يقررها.

حكوماتنا في الشرق التعيس كلها دمى تتحرك على مسرحها الكبير بوحي من ولي أمرها لا بوحي من مصالح شعوبها، لكن بعضها يسرت له الوفرة إمكانية إرضاء الشعوب وتوفير عيش كريم لها بعيدا عن ميادين المحظورات، وبعضها استأثر بالوفرة وداست "بساطير" جنوده رؤوس شعبه ومع ذلك بقيت أصابع محرك الدمى تحرك خيوطه وتعبث به وفق مقتضيات النص والمشهد.

أحزنني جدا ذلك المشهد وانتابني شعور للحظات أن تلك الدمية التي اكتشفت ذاتها ومنحتنا شعورا أنها أصيبت بالصدمة والحزن والانكسار ليست دمية حقيقة.. هي أنا وأنت وهو وهي، هي كلنا المقهورون والمنكسرون، محض دمى ينتابها الشعور بالضياع واللاجدوى.

في لحظة اليأس تلك يستحضر عقلي الباطن نظرية المؤامرة ويتساءل أليس ربما هذا المشهد مجرد رسالة أريد لها أن تستوطن دواخلنا تقول أنتم لستم أكثر من دمى متحركة كتلك الدمية وعليكم أن تعرفوا تلك الحقيقة وتتعاطوا معها كمسّلمة لن تقبل التغيير .

حسنا.. ربما، ولكن طالما أن هناك من يحاول مخاطبة عقلك الباطن فهذا يعني أنه لم يستحوذ عليك كليا بعد.. وربما ماتزال ثمة فرصة أو حتى فرص أن نكف عن أداء دور الدمى.