كرة الثلج عندما تكبر..

2023.09.26 | 06:28 دمشق

آخر تحديث: 26.09.2023 | 06:28 دمشق

كرة الثلج عندما تكبر..
+A
حجم الخط
-A

مثل كرة بحجم كرة اليد تبدأ المسألة وبمجرد أن تتدحرج يبدأ حجمها بالتضخم ويزداد وزنها ويتفاقم أثرها طالما لم تواجه مصدّا يوقفها ويهشمها، هكذا هي العنصرية وأفكارها وسلوكها، وهذا تماما ما يحصل الآن في تركيا.

بدأت المسألة ببضع تغريدات ضد اللاجئين السوريين تم تحميلهم فيها وزر كل الأخطاء والخطايا السياسية والاقتصادية الحكومية ومنعكسات أثرها على المجتمع التركي، لتتطور الحالة تصاعديا مع دخولها خط الاستثمار السياسي والانتخابي ضمن جو من عدم الشفافية وتجهيل الحقائق والمبالغة في تضخيم الأثر، وصولا إلى التحريض المباشر والعلني الذي بدأ يوصف وجود اللاجئين بالاحتلال، وشحذ كل السكاكين الإعلامية ضد هذا الوجود الذي أثقل خزائن الدولة بأكثر من أربعين مليارا من الدولارات وفق تصريحات حكومية صبت مزيدا من الزيت على النار، وساهمت في تأجيج جو من الكراهية والنبذ شكل بدوره الأرضية الأساس لسلوك عدواني تبدى في عشرات الاعتداءات اللفظية والبدنية على اللاجئين السوريين، أفضت في حالات كثيرة لموت الضحايا دون أن يقابل ذلك بإجراءات قضائية حازمة تجاه الفاعلين، بل وحتى دون أن تقابل برفض مجتمعي واضح إلا من بعض الأصوات التي اهتم غالبها بإعلان الرفض في جانبه الإعلامي أكثر مما اهتم بمعالجة جذر المشكلة قبل استفحالها، حتى وصلنا إلى مرحلة لم يكتف فيها العنصريون المجرمون بإفراغ حنقهم وغضبهم وتطرفهم الأعمى باللاجئين فحسب بل تعدى ذلك لتتطور المسألة وتشمل عموم العرب من سياح ومقيمين، بل وبعضا من الشرائح المحافظة من المجتمع التركي نفسه، ما يؤشر لتطور متسارع وخطير أسفر عن مئات الاعتداءات وعشرات الضحايا في ظل ردود فعل حكومية باهته وتائهة ومرتبكة، وجدت ضالتها في تصعيد مقابل تجاه اللاجئين تمثل بحملة ترحيل واسعة الطيف والنطاق حتى لتبدو وكأنها استجابة لرغبات العنصريين أكثر مما هي ضرورة تنظيمية لأوضاع اللاجئين ومواجهة لظاهرة الهجرة غير الشرعية!!!.

قبل شهر واحد فقط قالت صحيفة "تركيا" المقربة من الحزب الحاكم إن تركيا خسرت خلال شهرين فقط مليارا واحدا من الدولارات بسبب العنصرية والسلوك العدواني تجاه العرب

لا تكمن خطورة المسألة اليوم بتفاقم ظاهرة العنصرية وتضخمها ككرة الثلج المتدحرجة وانتقالها  إلى عتبات أخطر تتمثل في امتلاك القدرة والأدوات على الإيذاء والقتل فحسب، وإنما في التكيف والتماهي المجتمعي معها والامتثال لها كما تجلى بشكل واضح في حادثة الاعتداء على نساء سوريات وإنزالهن من حافلة النقل العام في مدينة إزمير بطريقة مهينة دون أن نشاهد تدخلا أو اعتراضا ولو لفظيا من أي من ركاب تلك الحافلة(!) وهو مؤشر غاية في الخطورة لكونه يوضح بجلاء كيف أن  أثر خطاب الكراهية وما يرافقه أو يعقبه من اعتداءات عنصرية قد صار طيفه واسعا جدا، ومرعبا جدا(!).

قبل شهر واحد فقط قالت صحيفة "تركيا" المقربة من الحزب الحاكم أن تركيا خسرت خلال شهرين فقط مليارا واحدا من الدولارات بسبب العنصرية والسلوك العدواني تجاه العرب، حيث ألغيت آلاف الحجوزات السياحية وتوجهت نحو وجهات أخرى تمنح الطمأنينة لمرتاديها..

وقبل بضعة أيام فقط قال ياسين أوكتاي الكاتب التركي في مقال له نشره في صحيفة "يني شفق" إن الخطاب العنصري المتصاعد ضد العرب والاعتداءات العنصرية أدت إلى إلغاء كثير من الحجوزات والرحلات السياحية إلى تركيا خلال هذا الصيف، كما تسببت بانتقال العديد من الاستثمارات إلى خارج تركيا ما تسبب بخسائر ليست أقل من خمس مليارات دولار.

من جهتها أشارت الأكاديمية وأستاذة العلوم السياسية السيدة "زاهدة توبا كور" إلى أن الأجانب بدؤوا ينهون استثماراتهم في تركيا بسبب العنصرية، وأن التجار العرب الذين أسسوا شركات في تركيا بدؤوا باتخاذ إجراءاتهم لإغلاقها فضلا عن امتناعهم عن المجيء لتركيا هذا العام لنفس السبب، حيث إن نشر الجرائم المرتكبة بحق السوريين (وكذلك الاعتداءات المتكررة على السياح العرب) في وسائل الإعلام العربية جعلهم ينظرون إلى تركيا على أنها دولة عنصرية.

أمام سوداوية هذا المشهد يتساءل المرء أين الحكومة إذن وما هي الإجراءات التي اتخذتها لمواجهة ظاهرة العنصرية المتفاقمة، وللحد من أضرارها المدمرة في أحلك الظروف الاقتصادية التي تعانيها الدولة التركية؟؟ ليصفعك الواقع أن لا إجراءات جدية قد تم اتخاذها إلا بعض تصريحات اهتمت بنفي العنصرية عن المجتمع التركي واعتبارها شيئا دخيلا أكثر مما أولت الاهتمام للحزم في مواجهتها!!!.

كرة الثلج تتدحرج وتكبر ما لم تضع الحكومة مصدّاتها القانونية لوقفها وتهشيمها وإنهاء أثرها المدمر، فهل يمكن اعتبار خطاب أردوغان شارة البدء لفعل ذلك؟؟

ولكن هل لاحظتم معي أن كل تلك الآراء والتصريحات كانت تركز على الأثر الاقتصادي السيئ للفعل العنصري دون أن يشير أي منها إلى الأثر الكارثي على البنية المجتمعية في تركيا نفسها بعد أن وصل العنصريون إلى عتبات خطيرة في خطابهم وعدوانيتهم وسلوكهم العنصري(!) وبطبيعة الحال دون أن يكترث أي منها أيضا إلى أثر ذلك على اللاجئين الذين تقع مسؤولية حمايتهم ورعاية سلامتهم وأمنهم على عاتق الحكومة التي ما تزال تسير في نهجها وبرنامجها في ترحيل اللاجئين، ليبدو المشهد وكأنها ترضي صلف وعنجهية العنصريين وتستجيب من حيث أرادت أو لم ترد لمطالبهم!!!.

كرة الثلج تتدحرج وتكبر ما لم تضع الحكومة مصدّاتها القانونية لوقفها وتهشيمها وإنهاء أثرها المدمر، فهل يمكن اعتبار خطاب أردوغان شارة البدء لفعل ذلك؟؟.

نعم هذا تماما ما حصل فما إن أطلق أردوغان تهديداته لأولئك العنصريين حتى انطلقت حملة أمنية طالت سبعا وعشرين منهم وإحالتهم للقضاء بينهم مثقفون وصحفيون وظّفوا منصاتهم الإعلامية لإطلاق سموم الكراهية ونبذ العرب واللاجئين، وهي وإن كانت خطوة متأخرة جدا لكنها بالتأكيد في الاتجاه الصحيح لضمان إخراس ذلك النشاز الذي صار مهددا لوحدة المجتمع التركي وسلامته قبل كل شيء فضلا عن آثاره الاقتصادية الكارثية.

لكن يبقى السؤال.. هل كان يتعين أصلا على سلطات إنفاذ القانون أن تبقى متفرجا على كرة الثلج وهي تتدحرج وتكبر طوال سنتين على الأقل من التعبئة والتحريض المحموم على اللاجئين بانتظار تلك الإشارة من الرئيس؟.. أم أن مسؤوليتها وصلاحياتها القانونية كانت توجب عليها اتخاذ ما يلزم من إجراءات بشكل تلقائي، وأن امتناعها أو تأخرها عن فعل ذلك يوجب مساءلتها أولا عن فعل لم تتخذه أوجب القانون عليها اتخاذه؟!