طمس الحقائق لا يغيّبها.. وإنكار الحقوق لا يلغي وجودها

2023.10.26 | 06:01 دمشق

آخر تحديث: 26.10.2023 | 06:01 دمشق

طمس الحقائق لا يغيّبها.. وإنكار الحقوق لا يلغي وجودها
+A
حجم الخط
-A

لطالما كان الموقف من القضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في دولتهم المستقلة وفق قرارات الشرعية الدولية أحد أهم عوامل سقوط الأقنعة وتعرية السياسات التمييزية والمزدوجة لدى صناع القرار الدولي والعربي أيضا.

اليوم – وكأي مواجهة فلسطينية إسرائيلية سابقة – تتبدى ازدواجية المعايير والمواقف التي تتخذها وتعلن عنها خاصة الدول الغربية التي طالما تشدقت بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وإذ بنا نكتشف أن تلك الأمور من المحرمات على الشعوب الأخرى، وهي خاصية مجتمعية وسياسية تخص مجتمعاتها وشعوبها أكثر مما تعني أنها حقوق للآخرين طالما كانت ممارسة تلك الحقوق أو السعي لممارستها ستفضي إلى سياسات ومواقف ربما تشكل حالة تصادم مع مصالحها التي تعلو من وجهة نظرها على أية مصالح أخرى، وتعتقد أن على الدول والشعوب الأخرى الامتثال لشروط تحقق مصالح الغرب ولو كان في ذلك انتهاك لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان التي شنفّوا آذاننا بها!!!.

حكومات الغرب العارية أعلنت مواقف حازمة تجاه الغزو الروسي لأوكرانيا، وقدمت كل أشكال الدعم لحكومتها لمواجهة هذا الغزو، لكنها لم تجرؤ قط أن تعلن موقفا واضحا وتقرر سياسات جدية وقوية تجاه الاحتلال الإسرائيلي المتمادي للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة – على الأقل – رغم وجود قرارات دولية صادرة عن الأمم المتحدة تقر بتلك الحقوق للشعب الفلسطيني وتعتبر وجود القوات الإسرائيلية عليها احتلالا، ومع ذلك ولعقود طويلة تمارس تلك الحكومات سياسات مائعة تجاه حقوق الفلسطينيين وترفض إدانة سياسات إسرائيل في التوسع الاستيطاني وقضم الأراضي الفلسطينية وتدعو دائما لحلول سلمية لهذا الصراع ترفض إسرائيل وحدها الامتثال لها.. حتى اتفاق أوسلو التي التزمت به الحكومة الإسرائيلية والذي مضى على توقيعه له ثلاثون عاما بالتمام والكمال لم تلتزم بإنفاذ مضامينه، وعندما يقرر ثلة من المقاومين الفلسطينيين مواجهة تلك اللامبالاة والتمادي في انتهاك حقوق شعبهم، مواجهة هذا الاحتلال وهو حق مشروع بموجب مختلف الشرائع والقوانين والمواثيق الدولية، تقوم الدنيا ولا تقعد ويوصم هؤلاء المقاومون بالإرهاب وتستباح دماؤهم وبيوتهم وعوائلهم تحت أعين هذا الغرب المنافق ومن دون أن يرف له جفن!!!.

التظاهر أمام السفارات الإسرائيلية ورفع العلم الفلسطيني صار جريمة في عرف هؤلاء الديمقراطيين(!) والتعبير عن موقف داعم لحقوق الفلسطينيين على منصات التواصل الاجتماعي صار معاداة للسامية

اليوم لم تعد خطورة المواقف الغربية تقتصر على تلك الازدواجية التي لا تقيم وزنا لحقوق الشعوب المقهورة فحسب، وإنما في تجريم التعاطف الشعبي معها والتعبير عن مواقف شعبية مغايرة لمواقف الحكومات سواء أكانت تلك المواقف صادرة عن شعوبها هي التي ترفل بالديمقراطية أو عن شعوب العالم الثالث التي أوجدتها السياسات الاستعمارية ودعم الديكتاتوريات في جغرافيا الغرب المرائي بصفة لاجئين!.

فالتظاهر أمام السفارات الإسرائيلية ورفع العلم الفلسطيني صار جريمة في عرف هؤلاء الديمقراطيين(!) والتعبير عن موقف داعم لحقوق الفلسطينيين على منصات التواصل الاجتماعي صار معاداة للسامية (!) لقد بلغ الخوف لدى تلك الحكومات المنافقة من إسرائيل مبلغه إلى الدرجة التي حرصت فيه مختلف وسائل الإعلام الغربية لا تظهر في تقاريرها وأخبارها وصورها إلا الجانب الذي يصور الإسرائيليين كضحايا للعنف (الهمجي) الفلسطيني، من دون أن تكلف نفسها عناء تصوير وعرض ما تقوم به القوات الإسرائيلية وما ترتكبه من جرائم وانتهاكات للقانون الدولي، وعندما تقوم بعض القنوات بفعل ذلك يشهر في وجهها سيف الحظر ويعرّض بها بوصفها تدعم الإرهاب وتتبع سياسات معادية للسامية(!).

حتى بعض القنوات العربية – مع الأسف – تشعر وأنت تتابع ما تبثه في هذا السياق أنها أكثر عدائية للفلسطينيين من الصهاينة أنفسهم(!) وتحاول بطريقة أو بأخرى شيطنة الفلسطينيين وتصويرهم كغول يسعى لالتهام أبناء المستوطنين الصهاينة!!!.

ربما تختلف الآراء بشأن شكل إدارة هذا الصراع وتوظيف بعض سياقاته واستثمارها من قبل قوى إقليمية أخرى هي على الضد من مصالح العرب عموما والفلسطينيين على وجه الخصوص، ولكن هذا الاختلاف يجب أن لا يحجب الحقائق الجوهرية لهذا الصراع وموجبات مواجهته..

هل نحتاج اليوم للتذكير بأن للفلسطينيين حقوقا تقرها جميع الشرائع وإسرائيل وحدها من تنكر تلك الحقوق وتتبع سياسات طوال عقود من الزمن لسلبها؟؟

وهل نحتاج اليوم للتذكير بأن إسرائيل لم تقبل قط أي مبادرة حقيقية للسلام في المنطقة ووضعت الشروط والعراقيل تلو العراقيل حتى تجهضها؟؟.. وهل نحتاج للتذكير بأن إسرائيل وقعت منذ ثلاثين عاما على اتفاق أوسلو للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين لكنها لحست توقيعها صباح اليوم التالي للتوقيع وتمادت في سياسات الاستيطان وإنكار حقوق أصحاب الأرض؟؟؟..

هل نحتاج للتذكير بعشرات القرارات الدولية التي تقر مقاربات للسلام في المنطقة لم تعن للإسرائيليين أكثر من هراء لا يستوجب الالتزام به، وهل نحتاج أيضا وأيضا للتذكير أن الشرائع الدولية كلها تقر للشعوب الواقعة تحت الاحتلال حق مقاومة هذا الاحتلال بمختلف الوسائل بما فيها الوسائل العسكرية؟؟؟.

فإذا كنا نرى اليوم من حكومات الغرب المنشئة لهذا الكيان إنكارا لكل ذلك وتملصا من الالتزام به، فحري بنا كعرب أن لانكون عونا لهم في سياساتهم ودعايتهم الشريرة التي تحاول التخلص من عقدة الذنب تجاه مافعلوه باليهود من قتل وتشريد واضطهاد خلال القرن الماضي، بإلقاء اللوم على الفلسطينيين، والانسياق وراء تلك الدعاية الكاذبة المضللة عن "الإرهاب" الفلسطيني.. فإن كانت تلك الحكومات والقنوات لا تريد أو لا تجرؤ على بسط الحقائق وعرضها والتعامل معها كمدخل لتحصين حقوق الفلسطينيين فحري بها على الأقل أن لا تشيطن الضحية وأن تتعاطى مع الأمر بنزاهة وموضوعية حتى لو اختلفت سياسيا مع تلك الضحية.

إن إنكار الحقوق الثابتة لا يلغي وجودها، وعلى العالم – وفي المقدمة منه العالم العربي نفسه – أن يدرك ذلك، وأن يختار في سياساته ما يوصل المنطقة كلها إما إلى غصن الزيتون أو البندقية

ربما كثير من الحكومات العربية والإقليمية والكثير من المنظمات أيضا تعاطت مع المسألة الفلسطينية كبوابة للمتاجرة والمزايدة والاستثمار سواء في سياساتها الداخلية تجاه شعوبها أو في سياساتها الدولية لتجعل لنفسها موطئا أو ركنا يجب الأخذ به ومراعاة مصالحه لدى التعاطي الدولي مع هذا الملف.. لكن كل ذلك لا يلغي حقيقة أن ثمة حقوقا ثابتة للشعب الفلسطيني لا يستطيع كائن من كان أن يجادل بها أو يساوم عليها أو يجعلها مطية دائمة لمصالحه، وأن هذه الحقوق إما أن يتحصل عليها أصحابها بالتفاوض والسلام أو بالحرب والمواجهة التي تقرها كل الشرائع والقوانين البشرية والإلهية...

إن إنكار الحقوق الثابتة لا يلغي وجودها، وعلى العالم – وفي المقدمة منه العالم العربي نفسه – أن يدرك ذلك، وأن يختار في سياساته ما يوصل المنطقة كلها إما إلى غصن الزيتون أو البندقية كما فعل ذات يوم المرحوم ياسر عرفات في خطابه الأول على منبر الأمم المتحدة التي طالما أدمنت القلق عندما يتصل الأمر بحياة الناس وحقوقهم في تلك المساحة الجغرافية المصابة بلعنة النفاق الأممي.