في مستنقع العنصرية!!

2023.09.11 | 07:24 دمشق

في مستنقع العنصرية!!
+A
حجم الخط
-A

كحال كل المجتمعات والتجمعات البشرية سيكون دائما فيها بعض ممن لا يقيم وزنا لقانون أو قيم إنسانية يفترض أن تمثل عادة حدا معقولا من قواسم مشتركة بين مختلف المجتمعات الإنسانية، وهؤلاء قد يكونون قلّة لكن مع ذلك هم الذين يطفون على السطح، ليس لأنهم يمثلون قيمة إيجابية مضافة إلى مجتمعاتهم، بل لأن بقعة صغيرة من القذارة على الثوب الأبيض عادة ما تغلب في ظهورها على كل مساحة بياض الثوب لكونها نشازا لا أكثر.

بكل أسف ثمة العديد من مثل تلك النماذج البشرية طفحت وطفت على السطح الظاهر للمجتمع التركي مؤخرا، ولن أدخل هنا في لعبة التصويب على أشخاص أو أسماء بعينها صارت معروفة تماما لعموم الأتراك والسوريين معا، لكي لا أمنح فرصة لهؤلاء لاستدراجي إلى معركة قضائية، واتهامي بقدحهم وذمهم والإساءة إلى شخوصهم والنيل من كراماتهم التي طالما أهدروها عندما أوقعوا أنفسهم في مستنقع العنصرية التي بدأت مفاعيلها تنعكس على عموم المجتمع التركي، وبدأت تسيء بقوة له ولعلاقاته العربية ولواقعه الاقتصادي.

هذه المشاهد الشائنة دفعت العديد من رجال الأعمال الخليجيين والعرب لنقل أعمالهم واستثماراتهم إلى خارج تركيا وإعادة توطينها في وجهات استثمارية أكثر أمانا وطمأنينة كالإمارات ومصر والمغرب

قبل بضعة أيام نشرت صحيفة "تركيا" تقريرا قالت فيه إن تركيا خسرت خلال شهرين فقط مليار دولار على الأقل بسبب العنصرية وتصاعد العداء ضد العرب عموما واللاجئين السوريين خصوصا في الفترة الأخيرة، إذ وفرت وسائل التواصل الاجتماعي أدوات فضح لهذا السلوك العدائي الذي شاهد ملايين العرب من خلالها مشاهد صادمة عن اعتداءات لفظية وبدنية على مقيمين وسياح عرب لمجرد أنهم عرب، رغم أنهم ينفقون أربعة أضعاف ما ينفقه أي سائح آخر غير عربي في تركيا.

هذه المشاهد الشائنة دفعت العديد من رجال الأعمال الخليجيين والعرب لنقل أعمالهم واستثماراتهم إلى خارج تركيا وإعادة توطينها في وجهات استثمارية أكثر أمانا وطمأنينة كالإمارات ومصر والمغرب، كما دفعت كثيرا من الشركات العربية لخفض أو إلغاء كثير من طلبات استيراد منتجات تركية والتحول عنها لوجهات تصديرية بديلة من دول أخرى كالنمسا وألمانيا، ما تسبب بإغلاق بعض المؤسسات المنتجة لتلك السلع أو تعثرها بسبب انخفاض الطلب والتعاقدات العربية معها، هذا فضلا عن إلغاء آلاف الحجوزات الفندقية والسياحية العربية عموما والخليجية على وجه الخصوص وتحولها إلى دول أخرى كجورجيا والبوسنة بديلا عن تركيا التي خسرت السوق السياحية فيها ما يقارب 50% على الأقل من وارداتها بسبب ما يتم تداوله عبر المنصات الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي من عنجهية وسوء تعامل واستغلال مفرط وعدوانية تجاه العرب.

ألف مليون دولار إذاً حصيلة خسائر شهرين فقط للاقتصاد التركي من مصادر التغذية والاستثمار المالي العربي الذي يقدر بنحو ثلاثين مليار دولار ، خُمسها ( 6 مليارات دولار ) تعود لممولين ومستثمرين سوريين لن يترددوا أيضا في البحث عن وجهات جديدة لأموالهم واستثماراتهم، طالما استمر هذا السلوك العدائي والخطاب العنصري الكاره للسوريين والعرب، وطالما استمرت أيضا تلك الحملات الطائشة التي لا تميز بين الصالح والطالح وما هو قانوني وما هو مخالف للقانون في عمليات الترحيل القسري التي تنتهجها السلطات بحق اللاجئين السوريين.

هل تلمست السلطات التركية هذا الأثر الموجع لتنامي هذا الخطاب والسلوك العنصري تجاه العرب؟ وهل بدأت تدرك أن هذه العنصرية المقيتة لن يقتصر أثرها على الاقتصاد فحسب بل ستعمق الهوة داخل المجتمع التركي نفسه بين من يرفض تلك العنصرية ومن يمارسها؟ وهل اتخذت تلك السلطات حيالها إجراءات قانونية زاجرة للحد من مفاعيلها وآثارها على مختلف الصعد؟

الحكومة التركية التي تواجه أصعب أزماتها الاقتصادية، هي اليوم أمام استحقاق مهم وخطير وعليها مواجهته بشجاعة وشفافية وحزم وهو واجبها في الدفاع عن مصالح شعبها التي بدأت تتأذى من العنصرية

حتى الآن – ومن دون أي تفسير يمكن فهمه - لم نر أو نقرأ عن شيء من هذا القبيل وهو ما يفسح في المجال لبعض تلك الرموز التي تتصدر المشهد العنصري القميء أن تشتط في مواقفها وتصريحاتها التي صارت تمثل الوقود الحيوي لمحرك العنصرية والعنصريين.. حتى بلغ الأمر بأحد الصحفيين المناصرين لهذا الخطاب العنصري أن يبدي مخاوفه من تعريب تركيا والمجتمع التركي، والذي سيؤدي بحسب زعمه إلى إغراق الأتراك في (القذارة) متجاهلا أو متعاميا عن حقيقة أنه سقط أصلا ضمن مستنقع القذارة العنصرية منذ أن كتب الحروف الأولى لتغريدته.

الحكومة التركية التي تواجه أصعب أزماتها الاقتصادية، هي اليوم أمام استحقاق مهم وخطير وعليها مواجهته بشجاعة وشفافية وحزم وهو واجبها في الدفاع عن مصالح شعبها التي بدأت تتأذى من العنصرية والدفاع أيضا وبحزم وبقوة القانون عن ضيوفها وعن المقيمين فيها واللاجئين إليها فتلك مسؤوليتها القانونية التي يتعين عليها النهوض بها على نحو مسؤول، فذلك وحده ما يجعلها تحافظ على مكاسبها الاقتصادية المتأتية عن سياسة الانفتاح التي اتبعتها تجاه عمقها العربي، وأن تحافظ قبل ذلك وبعده على وحدة مجتمعها وسلامه قبل أن تأخذ العنصرية فيه مداها وتنخر بنيانه وتجعله آيلا للسقوط لا قدّر الله.