حاضنة النظام تتململ.. ثم تتململ

2023.07.31 | 05:10 دمشق

آخر تحديث: 31.07.2023 | 05:10 دمشق

حاضنة النظام تتململ... ثم تتململ
+A
حجم الخط
-A

في مناطق سيطرة بشار الأسد لا يوجد مؤيدوه فقط. فهناك أيضاً يائسون أبديون من التغيير، لم يتحمسوا للثورة لقناعتهم أنها لن تنجح بسبب إجرامه غير المحدود أساساً. وهناك محافظون حياتياً أرادوا أن يستمروا في العيش في المنازل والمدن التي اعتادوها ويموتوا فيها. وهناك من أقعدتهم ظروف خاصة عن هجرة يؤجلونها سنة فسنة. وهناك من حبسته الخدمة العسكرية الإلزامية المفتوحة، أو الطلب لأدائها. باختصار، هناك خليط سكاني غير متجانس في الموقف السياسي المضمر وإن ظهر موحداً بالعلم الرسمي الأحمر الذي صبغ واجهات جميع الدكاكين التي صارت بؤرة معاناة متزايدة من عدم القدرة على تلبية متطلبات المعيشة المتوسطة مع انهيار سعر الصرف، بالإضافة إلى مراوحة الخدمات، كالكهرباء والمياه والمحروقات، بين دخول غرفة الإنعاش وبين سرير الأمراض المزمن دون أفق للحل.

بين الفينة والأخرى تتصاعد أصوات إعلاميين، أو «ناشطين» طارئين على موقع فيسبوك، تتذمر من الوضع المتردي وتطالب بالإصلاح وترفع السقف إلى هذا الحد أو ذاك. ينتمي هؤلاء في العادة إلى شريحة من يمكن وصفهم بالمؤيدين (السابقين!) خائبي الأمل. فالأنصار المتخشبون للنظام، الذين يقل عددهم باستمرار، ليسوا في وارد نقده بينما يخوض حربه الكونية ويعاني من العقوبات، وفق قناعاتهم أو حججهم التي صارت تلقى استنكاراً كبيراً. وفاقدو الأمل فيه، وفي غيره، يفضّلون البحث عن حلولهم الخاصة في وسط الورطة العامة المستفحلة.

الشريحة المستفيدة من النظام الآن هي في أضيق أحوالها منذ قيام الثورة عام 2011، فضلاً عن أن الموارد الباقية لا تتيح للكثيرين من هؤلاء «المستفيدين» دخلاً يتجاوز تلبية الحاجات الأساسية

الشريحة المتذمرة ليست صغيرة، بالنظر إلى من تعبّر عنهم هذه الأصوات «الجريئة» المتناثرة. وهي تشمل بيئة طائفية واسعة وقاعدة من الموظفين والعسكريين وحتى عناصر الأمن. فبعد انحسار المعارك تقلصت مصادر الدخل غير المشروع التي تتنشط في أحوال الحرب؛ كالتعفيش والترفيق والابتزاز وتجارة المعتقلين ومعابر تهريب الناس والبضائع. وعلى خلاف ما يشيع فإن الشريحة المستفيدة من النظام الآن هي في أضيق أحوالها منذ قيام الثورة عام 2011، فضلاً عن أن الموارد الباقية لا تتيح للكثيرين من هؤلاء «المستفيدين» دخلاً يتجاوز تلبية الحاجات الأساسية، بالنظر إلى الفارق الكبير بين الراتب النظامي وبين متطلبات العيش.

ومن هنا يجب ألا نستثني من المطلّين على الفقر أعداداً أساسية من الشبّيحة، السابقين أو الحاليين، وأكثر منتسبي المخابرات، ونسبة غالبة من الضباط الذين لا يتاح لهم تفييش العساكر. فضلاً عن موظفين متوسطين وعاديين، ما زالوا يرتدون الطقم الرسمي وربطة العنق بدوافع «السترة».

وعد النظام هؤلاء بالسيطرة على «الأزمة». وحالما حقق انتصارات عسكرية على المناطق الثائرة بشّرهم بانتهاء الحرب. فلما جلسوا ليتناولوا حصتهم من النصر غير الإلهي، ولو كانت بمجرد العودة إلى الحياة في سنة 2010، وجدوا أنفسهم أمام مائدة فقيرة من الخبز الرديء وحبّات البطاطا القليلة والبندورة العطنة. مع دعوات متجددة إلى الصبر المفتوح، ودون وعود هذه المرّة.

يشعر هؤلاء بأنهم خُدعوا. يعتقدون أن كبار رجال النظام استخدموهم. ولذلك تتكرر في عباراتهم كلمة «الكرامة» فضلاً عن الطلبات المعاشية. غير أن التباساً محيراً يقع هنا حين لا ينتبهون إلى التشابه بين الخطاب الذي يرددونه وبين ما كان الثوار يرفعونه بالضبط!

وخلافاً لما يتمناه المعارضون ومنابرهم الإعلامية لا يبدو المتذمرون الجدد في وارد استئناف الثورة بأي شكل. بل إنهم يتحاشون ذلك لأسباب تتجاوز الحذر الأمني إلى جذر أعمق من كراهية الثورة التي ربما اعتبروها «أصل البلاء»، فهي التي هدمت الحجر الأول في الزمن الجميل بالنسبة إليهم، يوم كانت فروجة البروستد وربطة الخبز السياحي وقنينة الكولا بالحجم العائلي، وهي سدرة المنتهى المنشودة، متاحة عدة مرّات في الشهر.

سواء أكان اسمه ثورة أو احتجاجات أو اضطرابات أو إضرابات. وما دام الوضع الاقتصادي في مناطق النظام في انحداره المستمر، مع قفزات طافرة إلى أسفل، فالأرجح أن الفتق سيحدث في نهاية المطاف

مع تكرار التجارب، وتناوب الأمل والإحباط، ملّ جمهور الثورة من محاكمة المتذمرين من مناطق النظام في قاعات لا يحضرها هؤلاء أصلاً. وضجروا من الاحتفاء بهم أو تعييرهم بأنهم ثوار لقمة لا كرامة، وأحياناً بأنهم يستحقون التشفي لأن أرومتهم الأساسية كانت الشماتة بسكان المناطق الثائرة يوم جاعوا وعندما قُصفوا بالبراميل وبالسلاح الكيماوي.

لكن الجوع والعطش والعتمة والبرد أسباب كافية للتحرك، سواء أكان اسمه ثورة أو احتجاجات أو اضطرابات أو إضرابات. وما دام الوضع الاقتصادي في مناطق النظام في انحداره المستمر، مع قفزات طافرة إلى أسفل، فالأرجح أن الفتق سيحدث في نهاية المطاف. خاصة مع تعرض المؤيدين لموجات متناوبة من الماء الساخن والبارد. كان آخرها تفاؤل ساذج عريض بتدفق أنهار من المال السعودي والإماراتي، إثر المصالحة العربية ودعوة الأسد إلى قمة جدة. ليتبين أن أبرز نتائج هذا الاجتماع كان صورته التذكارية الختامية. بل كان الأقسى تزامن انهيار هذا الأمل مع ارتفاع صاروخي للدولار.

أسباب عديدة ما زالت تمسك هذه الشريحة من حاضنة النظام عن الانفجار في وجهه، ليس أهمها العامل الأمني رغم جديته. وربما كان أبرزها هو شعورها بفقدان البوصلة، لأن الخروج عليه بمنزلة بصمة أخيرة على الخسارة التي شملت «شهداء» وصبراً مرّاً، وهدمٍ من الداخل للبناء المتآكل الذي عملوا على المحافظة عليه سنوات، وفتح لأبواب خطر انتقامي تُسعِره دوافع أهلية، وتسليم المستقبل للريح بالمعنى الكامل للكلمة. ولذلك ما زال الجوع خياراً أقل وطأة، مع غياب مشاريع أو رموز محلية موثوقة تقود درب الخروج من هذا المأزق.

لكنه جوع فعلي، ولا يمكن أن يُحتَمَل إلى الأبد!