عيدان مختلفان بين دمشق وإدلب

2024.04.14 | 06:59 دمشق

بشار وأسماء
+A
حجم الخط
-A

في أول أيام عيد الفطر اصطحب بشار الأسد زوجته أسماء الأخرس، أو صحبته هي، إلى «نادي الرماية» قرب العاصمة. حيث نظّمت مجموعة من الجمعيات الخيرية، التي تدور في فلك مؤسستها «الأمانة السورية للتنمية»، احتفالاً بهيجاً هدف إلى إدخال الفرحة إلى قلوب الأطفال؛ الأيتام ومجهولي النسب وأبناء «شهداء» الجيش وجرحاه وذوي الإعاقة.

لاهياً عما سيأتي، متجاهلاً ما قد مضى، لعب بشار الأسد مع الأطفال وإن لم يغنِّ معهم، منفذاً نصف وصية أثيرة لوالده. توزع وقرينته على فريقين ولعبا شدّ الحبل، كما يفعلان في الواقع. تنقلا بين عصيّ متسلسلة موشكة على السقوط، كما يعيشان منذ 2011 أيضاً، ومارسا ألعاباً كشفية أخرى. بملابسه الكاجوال ظهر كرجل خليّ البال أدى ما عليه؛ فقد قتل وسجن وهدم وهجّر على مدار أكثر من عقد، وآن له أن يعيّد مع من تبقى من مواطنيه الذين أفهمهم الحدود الضيقة لما تقدّمه سلطته من إمكانات في شؤون المعيشة، وأن عليهم أن يدبّروا رؤوسهم إذا أرادوا الحفاظ عليها.

على بعد أربع ساعات بالسيارة كان مستبد آخر يعاني من تعثر خطواته الأولى لتثبيت حكمه وترويض رعاياه المشاكسين. إذ لم يرث أبو محمد الجولاني بلداً مطواعاً كما هو حظ بشار، وكان عليه أن يبني مسيرة طغيانه الصعبة خطوة خطوة. وفي هذا العيد لم يستطع أن يلهو مع الأطفال، كما فعل ذات مرّة، فالمظاهرات ضده مستمرة وطريق قمعها عسير.

وبينما أدى الأسد صلاة العيد محاطاً بالعمائم في جامع بحيّ مشروع دمّر الحديث وتلقى ما طاب لها من مديح؛ كان على الجولاني أن يؤديها في مصلى متخف قرب مقر إقامته مع عدد من قادة الجناح العسكري في «هيئة تحرير الشام» ومقاتليه بالبدلات المرقطة. منبهاً إياهم، في كلمة وجيزة، إلى ضرورة «التسلح من الفتن ومما يجري من القيل والقال» لأن عليهم واجب أن يرهبوا عدو الله وعدوهم، وعدوه بطبيعة الحال!

يشيع مؤخراً التشبيه بين حكم الأسد وسلطة الجولاني، وهو مما يثير غبطة خفية في مكان ما من نفس هذا الأخير

أكمل الجولاني يومه على المنوال نفسه. ببزّة عسكرية زيتية استقبل المعايدين من وجهاء «المهاجرين»؛ المقاتلين غير السوريين، المرتبطين به. وسوى هذا الذراع من القوة تلقى تهنئة حاملي أختام الشرعية الذين تمثلوا في «جمع من طلبة العلم والدعاة»، كما وصفهم إعلامه، ووفد من قضاة وزارة العدل في «حكومة الإنقاذ السورية» التي يهيمن عليها.

يشيع مؤخراً التشبيه بين حكم الأسد وسلطة الجولاني، وهو مما يثير غبطة خفية في مكان ما من نفس هذا الأخير. وتستند المقارنة إلى ما لا يخفى من إمساك زعيم «هيئة تحرير الشام» بما تحت يده من مناطق بقبضة أمنية قوية، وتهميش الجناح العسكري بشكل لا يبرز فيه قائد يفكر بالمنافسة، والاستهانة بالواجهة الحكومية المدنية، والإصرار، أولاً وأخيراً، على الحكم الفردي الذي بات يجد له أنصاراً يهتفون له بالفداء «بالروح، بالدم».

لكن، رغم هذه المظاهر، فإن نظرة أدق تفيد في تبين الفوارق الأعمق رغم التشابه في بعض المفردات والشكليات.

فانطلاقاً من القضية الأساسية التي أثارت الاحتجاجات الحالية في إدلب، وهي تغوّل الجهاز الأمني وإطلاق يده وتجاوزه الحدود بالتعذيب والإهانات؛ يمكننا القول بأن تحجيم هذا الجهاز، ووضعه تحت سقف «القانون»، وشفافية عمله؛ صارت محل اتفاق سواء بين معارضي الجولاني، الذين يبنون على ذلك حتمية عزله، وبين المقتنعين بدعوته الإصلاحية. فمعظم الأخيرين لا يشبه بيادق النظام في الحكومة و«مجلس الشعب» والنقابات والمؤسسات العامة، ممن ربّتهم سلطة الأسدين عبر عقود وصنعتهم على أعين أجهزة مخابراتها. بل هم من خلفيات أو بيئات ثورية أو إيديولوجيات إسلامية لا تستطيع القبول بهذا الوضع طويلاً. وإن مال الكثيرون منهم، اليوم، إلى المهادنة أو لحاق الكذاب إلى وراء الباب لأسباب تتعلق بدرء «الفتنة» أو الخشية من الفوضى أو الحفاظ على المصالح.

وإذا كان على رأس الحراك الراهن بعض قادة «الهيئة» المنشقين، ومؤسسي «مجلس الشورى العام»، ووزراء سابقين، وقضاة مستقيلين؛ فمن المرجح أن الباب الذي فتحه هؤلاء، بتصريحاتهم العلنية ومكاشفاتهم القوية، سيبقى تحت أنظار زملائهم الحاليين ومصدر وخز دائم لضمائرهم المكشوفة على العلن.

وإذا كان الأمر كذلك في مسألة حساسة كتقييد سلطة الجولاني وتقليم أمنه فإن الموضوع سيكون أسهل في مطالب أخرى تتعلق بخفض الضرائب والرسوم وضبط الشراكات المفروضة والمحاصصات. وهي قضايا تنال إجماعا. ومن هنا يمكن القول إن التظاهرات الجارية، وإن لم تصل إلى الكتلة العددية الحرجة كما يكرر إعلام «الهيئة»، قد أنجزت ما لا رجعة عنه. ومهما بلغت محاولات الجولاني للتحايل فإن اعتماده سيكون على قلة من أعوانه المخلَصين ومرتزقته الموثوقين وبعض أنصاره المسلحين اليافعين، ولن يستطيع جر آلاف الممسكين بالأجنحة المدنية والعسكرية إلى القبول بالحال السابق، لا سيما بعد إحراج جهازه الأمني ومع تواضع الإغراءات المادية التي يملكها.

إن ما واجهه الثائرون السوريون منذ آذار 2011 هو ثمرة سنوات طويلة من الهندسة التي برع فيها الأسد الأب، «المؤسس»، وقبله أعوام من حكم البعث، إن لم نتحدث عن عهود أقدم. وهو ما لا يشبه، موضوعياً، تكوين معظم المشاركين اليوم في حكم الجولاني. فهم لا يستطيعون المضيّ معه بمرونة لانهائية.

بعد أداء بشار الأسد صلاة العيد الأخيرة، كما يُظهر فيديو شائع، سارع أحد المشايخ المعروفين المحيطين به إلى اقتناص فرصة الكلام لإبداء دهشته من قدرة «الرئيس» على المزج بين «السياسة والفلسفة والدين وعلم الاجتماع والتربية والاقتصاد». أما في فيديو متداول آخر، يستدل به المحتجون في إدلب على نفاق أحد المشايخ الرافضين للتظاهرات، فيقول هذا الشيخ في اجتماع عام بحضور الجولاني، محيلاً على القصة الشعبية الرائجة: «ليش أنا بدّي أفرض إذا بدنا نشيل أبو محمد بدّه يجي أحسن؟ بيجوز نبكي عالنبّاش الأول»!