هل للدواعش حقوق؟

2024.04.28 | 06:04 دمشق

آخر تحديث: 28.04.2024 | 06:04 دمشق

الهول
+A
حجم الخط
-A

لم توجّه «الدولة الإسلامية» المفترضة الشكر لفريق «منظمة العفو الدولية» الذي عمل لسنتين على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان التي يتعرض لها منتسبو التنظيم وعوائلهم في منظومة الاحتجاز التي تديرها «الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا».

لا يخرج هذا عن سياق تلك «الدولة» التي نشأت معتزلة، ترفض كل دول العالم وهيئاته. ولعلها لو حظيت بباحثي المنظمة هؤلاء لصاروا مادة أحد الإصدارات التي تفننت في وحشيتها. فداعش، التي لا ترحم أحداً، لا تتوقع الرحمة من أحد. معادلتها مع العالم صفرية. وطريقتها في تحرير «أسراها» هي «هدم أسوار» سجونهم، كما قالت مراراً وحاولت أحياناً ففشلت ونجحت.

لكن التقرير الذي أصدرته المنظمة الدولية مؤخراً في هذا الشأن يستحق المناقشة السياسية رغم ذلك. ومن الطبيعي أن تتوجه الأسئلة الناجمة عنه، أساساً، إلى «الإدارة الذاتية» التي تُفرِط في استخدام كلمة ديمقراطية وتحرص على أن تقدّم نفسها للعالم المتحضر على أنها جزء من منظومته القيمية والتزاماته القانونية، مما يتعارض بوضوح مع ما سجله التقرير من انتهاكات جسيمة لمختلف حقوق الإنسان.

في الدرجة الثانية تتوجه المسؤولية إلى «التحالف الدولي» ضد داعش، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية التي لعبت دوراً مركزياً في إنشاء منظومة الاحتجاز هذه وتمويلها، وتتمتع بنفوذ كبير على «الإدارة الذاتية» لأسباب سياسية وعسكرية ومالية.

وقد عرض معدّو التقرير نتائج بحثهم على هاتين الجهتين الرئيسيتين، وأرسلوا إليهما استفسارات رسمية مكتوبة، وتلقوا منهما أجوبة جزئية، ووجهوا لهما التوصيات عند نشره أخيراً، وانتظروا تعليقيهما ووعودهما بالاهتمام والمتابعة. ومن المأمول أن يؤثر ذلك إيجابياً على حياة أكثر من خمسين ألفاً يخضعون لمنظومة الاحتجاز هذه؛ في السجون أو مراكز «إعادة التأهيل» أو مخيَّمَي «الهول» و«روج».

غير أن ما لم يقله التقرير ربما يكون في درجة أهمية ما قاله، على صعيد وعينا الحقوقي والإنساني. فمن بدهيات الأمور أن للسجناء حقوقاً ثابتة في الحياة والصحة والغذاء والمعاملة اللائقة بغض النظر عن انتمائهم إلى هذا التنظيم الدموي أو الاشتباه بذلك، فضلاً عن أن يكونوا من زوجات أفراده أو أبنائهم. لكن هذا يحتاج إلى التذكير في منطقة سمّم فيها الصراع، المصنوع من الأحقاد الأهلية والثارات، كل شيء حتى العمل الحقوقي.

ففي سوريا، على سبيل المثال ووسيلة الإيضاح، لدى كل من «أطراف النزاع» منظماته الحقوقية كما لديه قواته المسلحة ومنابره الإعلامية. وفي كثير من الأحيان لا تختلف وظيفة هذه عن مهمة تلك في الدفاع عن الطرف الذي تنتمي إليه والتغطية على ثغراته والهجوم على خصومه السياسيين أو ما دون ذلك من تحيزات. حتى صار يمكن توقع محتوى تقارير بعض المنظمات بمجرد معرفة خلفيات القائمين عليها أو مناطق عملهم، ولأسباب لا تتعلق بالقدرة على الوصول.

حقوق الإنسان أحد مكونات العالم الآن. لكنه مكوّن طويل البال، فاتر القلب، معقد الإجراءات، قد تعوقه مصالح الدول وسياساتها فيعاندها

استفحل هذا في زمن «الحرب» كما يقال، لكنه يمتد أعمق من ذلك في التاريخ المعاصر للبلاد. فمن المعروف أن جذور عدد من المنظمات الحقوقية تعود إلى إيديولوجيين أو حزبيين يئسوا من العمل السياسي فاتجهوا إلى الحقوق. وخلف الأسماء البراقة المتشابهة كان من في الكواليس يعرفون، مثلاً، أن هذه المؤسسة الحقوقية «قريبة من الإخوان المسلمين»، وتلك اللجنة أسسها ماركسيون في الخارج للدفاع عن معتقلي حزبهم، وأن رابطة ثالثة، مدعومة أوروبياً، تهتم بسجناء «المجتمع المدني» على وجه التحديد.

ونتيجة الخلفيات الشخصية والفكرية، وشبكة العلاقات وطرق المعلومات، قل أن تهتم منظمة بقطاع عمل أخرى إلا في حال تنامي الوعي الحقوقي البحت على حساب السياسي. كما في حالة المغيّبة المحامية والكاتبة رزان زيتونة التي دخلت مجال حقوق الإنسان دون تجربة حزبية سابقة، مما فتح لها أبواب الاهتمام بقضايا مختلفة، كالسجناء السوريين في غوانتانامو المتهمين بالانتماء إلى تنظيم «القاعدة» في أفغانستان ولم يكونوا بعيدين عن ذلك في الحقيقة. ومن الواضح أن لا رابط إيديولوجيا يجمعهم بزيتونة التي كتبت عنهم وأثارت قضيتهم وتواصلت مع عائلاتهم.

النقطة الثانية التي يجدر بتقرير «منظمة العفو الدولية» المشار إليه أن يطرحها على وعينا العام هي أن حقوق الإنسان ليست «كذبة» اخترعها الغرب لمحاربة أعدائه، يحرّكها متى يشاء ويُخمدها حين يريد، كما تقول فكرة رائجة لدينا. فها هم الدواعش، الذين لم يتركوا لهم صاحباً، يحتلون تقريراً من ثلاثمئة صفحة تقريباً، مكتوباً بالعناية والدقة اللازمتين، في مواجهة أميركا وبريطانيا والدول الغربية الأعضاء في «التحالف» والقوى التي يدعمها محلياً.

 صحيح أن حقوق الإنسان ليست مبتدأ العالم المعاصر ومنتهاه، فهي حديثة التبلور نسبياً وما تزال قيد الترسيخ؛ لكن الصحيح أيضاً أنها أحد المحددات الرئيسية لسياسات الدول الغربية اليوم، دون أن تصير عاملاً أوحد أو تشغل رأس سلم الأولويات، كما يحلو لنا أن نحاجج الغرب على سبيل السباب أحياناً.

حقوق الإنسان أحد مكونات العالم الآن. لكنه مكوّن طويل البال، فاتر القلب، معقد الإجراءات، قد تعوقه مصالح الدول وسياساتها فيعاندها. وكي نتقن الاستفادة منه علينا أن ندرك أنه ليس استجابة إسعافية يجب أن تعمل في التو واللحظة وإلا كفرنا بأثرها.

وقبل ذلك علينا أن نؤمن بحقوق الإنسان بعمق ودون تمييز، ولا نستخدمها كسلاح أنيق.