icon
التغطية الحية

جيمس جيفري: ما يزال هنالك مجال للتوصل إلى اتفاق في سوريا

2021.12.13 | 13:52 دمشق

طفل ينتظر المساعدات في دير الزور
طفل ينتظر المساعدات في دير الزور
فورين افيرز / جيمس جيفري - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

­­­في الوقت الذي يركز فيه الرئيس الأميركي جو بايدن وفريقه على الملف النووي الإيراني، ما تزال الحرب في سوريا جرحاً نازفاً في قلب الشرق الأوسط، وبالرغم من أن الإدارة الحالية لم تبتعد كثيراً عن النهج الذي تبنته الإدارة السابقة في هذا الملف، فإن قرارها القاضي بعدم إيلاء هذا النزاع أولوية أتى في الوقت الخطأ. فاليوم تلوح فرص للتوصل إلى حل للأزمة السورية، لهذا ينبغي على الولايات المتحدة أن ترسّخ ما يلزم من الجهود الدبلوماسية لاقتناص تلك الفرص، إذ تشمل مفاتيح النجاح بعد سنوات من الفشل ليس فقط التدخل على أعلى المستويات، بل تشمل تقييماً واقعياً لما يمكن إنجازه ضمن أي صفقة.

إن المخاطر المترتبة على إبقاء سوريا آخر اهتماماتنا كبيرة، فقد تحول هذا النزاع بالأصل إلى فشل متسلسل على الصعيد الاستراتيجي، تمثل بانتصار نظام بشار الأسد الذي يحمل بين طيّاته رسالة لكل المستبدين في العالم فحواها أن القتل الجماعي أسلوب ناجع للبقاء في السلطة، كما يدل ذلك على صعود الحليفين الروسي والإيراني اللذين دعَما الأسد وثبتاه في مكانه، وذلك على المستوى الإقليمي. خلق ذلك "النصر" تهديدات جيوستراتيجية أيضاً، بدءاً من ظهور تنظيم الدولة، مروراً بالصواريخ الإيرانية العالية الدقة التي تهدد إسرائيل، وصولاً إلى تدفق اللاجئين الذي يهدد بزعزعة استقرار الدول المجاورة وأوروبا. أما بالنسبة للسوريين أنفسهم، فإن الحرب التي استمرت لعقد من الزمان كبّدتهم خسائر بشرية مريعة، كما شردت نصف السكان من بيوتهم، وأفقرت الشعب الذي أصبح معوزاً. وفي حال بقيت تلك المشكلات بلا معالجة أو حل، فلا بد لها أن تهدد بزعزعة استقرار الشرق الأوسط لسنوات قادمة.

كما أن الحرب السورية جلبت الجيش الأميركي والإسرائيلي والتركي إلى البلاد، مما يهدد بوقوع اشتباكات بينها وبين القوات الإيرانية والروسية والسورية. إذ ترى واشنطن في قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي أقامت جيباً لها في شمال شرقي سوريا حليفاً مهماً لمحاربة تنظيم الدولة، في حين ترى أنقرة في تلك الجماعة الكردية تهديداً إرهابياً بالنسبة لها. وقد أتى آخر عملين استفزازيين، أحدهما عندما خرق الأسد وقف إطلاق النار في تموز عام 2017، في جنوب غربي البلاد بعدما تم التفاوض على تلك المنطقة بين الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، والهجوم الذي شنه مقاتلون تدعمهم إيران في شهر تشرين الأول الماضي على القوات الأميركية في قاعدة التنف جنوبي سوريا، من دون أي رد أميركي واضح، مما قد يشجع الأسد أو إيران على التصعيد في تلك المناطق التي تجوبها دوريات تركية أو أميركية.

سبق أن أشار كبار المسؤولين في إدارة بايدن خلال مناسبات متكررة إلى أنهم غير معنيين بتركيز جلّ جهودهم على حل النزاع في سوريا، ومع تغير الظروف، وبدء ظهور معالم لتسوية ممكنة، ينبغي على هؤلاء أن يعيدوا النظر في القرار الذي اتخذوه. وبالرغم من أن الاهتمام الأميركي المنصبّ على إيران يركز على المفاوضات بشأن برنامجها النووي المهم، بدلاً من الأدوار التي تلعبها طهران على المستوى الإقليمي، فإن الإدارة الأميركية أصبحت لديها فكرة أوضح عن مآل الأمور في تلك المحادثات، لذا عليها أن تتدخل بشكل جدي في الملف السوري، وذلك لأن المخاطر المترتبة على غض الطرف عن هذا النزاع، والفوائد التي يمكن تحصيلها عند التوصل إلى اتفاق وصفقة بشأنه، مهمة للغاية، بحيث لا يجوز أن ندع تلك الفرصة تمر مرور الكرام.

لنعقد نحن هذه الصفقة

ينبغي على الولايات المتحدة أن تترأس الجهود الدبلوماسية التي سيتم إحياؤها بهدف التوصل إلى حل للنزاع السوري. وبالرغم من أن أي صفقة يجب أن تتناغم مع الدور الرسمي للأمم المتحدة، يمكن لواشنطن وحدها أن تنسق بين العديد من الأطراف المتحالفة ضد الأسد. بيد أن الطرف الوحيد الذي يمكن للولايات المتحدة أن تتحاور معه في تلك المفاوضات هو روسيا. لأن من حاول أن يبرم صفقات مع الأسد بشكل مباشر منذ عام 2011 تعرض للخذلان، ثم إن إيران ترفض على الدوام أي نقاش حول ممارساتها في دول الجوار مع دول من خارج المنطقة. كما أن موسكو لا تسيطر على الأسد بشكل كامل، ولهذا لا بد لها من خوض منافسة  على النفوذ مع إيران، لكنها تظل أهم شريك في التحالف الذي يجمع بين روسيا وسوريا وإيران، كما أن طموحات موسكو محدودة مقارنة بطموحات النظام في دمشق أو طهران، مما يجعلها أكثر قابلية للانقياد في مسألة حل هذا النزاع عبر التفاوض.

يجب على إدارة بايدن أن تسعى لخفض التصعيد بشكل تدريجي عبر هذين الطرفين. وهذه الاستراتيجية تشبه تلك التي تبنتها الإدارتان الأميركيتان السابقتان، إلا أن المشكلات المحددة التي يجب أن تولى أكبر أهمية ينبغي أن تقوم على ما تختاره إدارة بايدن وشركاؤها إلى جانب ما يختاره الطرف الآخر. وعلى رأس قائمة الأولويات يمكن أن تأتي التنازلات السياسية التي سيقدّمها نظام الأسد لضمان عودة آمنة للاجئين، ويشمل ذلك إعادة التوطين بمراقبة دولية، مع شروط أمنية ورقابية مماثلة لإعادة دمج قوات المعارضة وقوات سوريا الديمقراطية، بالإضافة إلى تقديم ضمانات أمنية لتركيا على حدودها الجنوبية، وإخلاء المناطق السورية بصورة دائمة من الأسلحة الاستراتيجية الإيرانية، لا سيما الصواريخ العالية الدقة (إلا أن انسحاب إيران من سوريا بشكل كامل أمر غير واقعي).

وبالمقابل، يمكن أن تضغط روسيا على كل من الجيش الأميركي والإسرائيلي والتركي ليقوموا بالانسحاب من سوريا، كما من المرجح أن تطالب موسكو بتعاون أميركي لمحاربة الإرهاب في سوريا، والمتمثل بتنظيم الدولة، بما أن الأسد لا يستطيع أن يهزم ذلك التنظيم على ما يبدو، إلى جانب مطالبتها بتخفيف العقوبات، وإعادة اللاجئين من تركيا والأردن ولبنان إلى مدنهم وقراهم في بلدهم. وقد تتمنى روسيا، بأن تفتح تلك الخطوات الباب أمام الاستثمارات الأجنبية في سوريا، ولعل تلك الأمنيات ليست بواقعية، إلا أن ذلك يمكن أن يحرر موسكو من محاولة دعم الاقتصاد المنهار في تلك البلاد. وأخيراً، يمكن لقرار جديد صادر عن مجلس الأمن الدولي أن يختتم رسمياً أي اتفاق مع فرض إشراف ورقابة على الالتزامات التي يتعهد بها كل طرف من تلك الأطراف. وبذلك ستصبح النتيجة النهائية عودة سوريا لسابق عهدها كدولة طبيعية، إلى جانب تمتعها بعضوية كاملة في الجامعة العربية.

قد تكون موسكو الطرف الأكثر استعداداً لاتفاق يأتي على هذه الشاكلة بصورة تفوق كل تقديرات إدارة بايدن، فالتاريخ يخبرنا بأنه بوسع الولايات المتحدة وشركائها أن يمارسوا ضغوطاً من شأنها أن تؤثر على حسابات روسيا الاستراتيجية في سوريا. فللمضيّ بالجهود الأممية قدماً، وضعت كل من إدارة ترامب وأوباما، وكذلك الدول الأوروبية والعربية نظام الأسد تحت وطأة ضغوط اقتصادية ودبلوماسية. بعد ذلك قامت إدارة ترامب بممارسة الضغط العسكري استكمالاً للإجراءات الاقتصادية والدبلوماسية، إذ شنت غارات جوية منعت قيام نظام الأسد بشن هجمات بالأسلحة الكيماوية، مع استبقاء جنود أميركيين في شمال شرقي وجنوبي سوريا، ودعم الجيشين الإسرائيلي والتركي في تدخلاتهما في تلك البلاد. ولهذا، وبحلول أواخر عام 2018، أدت تلك الخطوات إلى حالة الجمود التي استمرت حتى اليوم.

بعد ذلك دفعت إدارة ترامب الروس لحل قائم على التسوية يعتمد بصورة أساسية على تراجع الضغوط الدولية، لا سيما العقوبات، مع قبول الأسد بتقديم تنازلات بالنسبة للقضايا الجيوستراتيجية مقابل ذلك، وشملت كما سبق أن أشرنا، إخلاء البلاد من الأسلحة الاستراتيجية الإيرانية، والتعاون مع الأمم المتحدة في العملية السياسية التي تسعى لمصالحة النظام مع قوات المعارضة ومع اللاجئين، وإنهاء برامج الأسلحة الكيماوية في سوريا.

وقد راق هذا المقترح لبوتين فدفعه لدعوة وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، لسوتشي في أيار من عام 2019 لمراجعة هذا المقترح معه. إلا أن بوتين اختار في نهاية المطاف عدم إبرام اتفاقية في ذلك الحين، إذ يرجح أنه اعتقد بأن بوسعه تحقيق نصر عسكري كامل لا يحرز من خلاله أهدافه الأساسية في سوريا وحسب، بل أيضاً يحول موسكو إلى لاعب إقليمي أساسي. ومما شجعه على ذلك وقتئذ هو محاولات ترامب المتكررة لسحب الجنود الأميركيين من سوريا، ولهذا حاولت موسكو في مرات عديدة شق صف التحالف المعادي للأسد، حيث أخذت تضغط على الأتراك وعلى الإسرائيليين، وعلى حلفاء الولايات المتحدة من الكرد ليقوموا بإبرام اتفاقيات وصفقات مع الأسد، كل على حدة. كما شجع تواصل الدول العربية وانفتاحها على دمشق الروس على القيام بذلك أيضاً.

آفاق السلام

تلاشت آمال روسيا اليوم في تحقيق الأسد لنصر كاسح، كما أن الأتراك والإسرائيليين والكرد استبقوا نقاطهم العسكرية في سوريا بعدما تعرضوا لتعنت كبير من قبل نظام الأسد. وأصبح تواصل وانفتاح بعض الدول العربية على الأسد مصدر قلق وشك، ولهذا لم ينجم عن ذلك حتى اللحظة عودة الأسد إلى حظيرة الجامعة العربية. ثم إن إدارة بايدن أكدت اليوم على معظم عناصر استراتيجيتها السابقة، ألا وهي الاحتفاظ بوجود القوات الأميركية في سوريا، مع بعض التعديلات، وإبقاء العقوبات على النظام، لترسل بذلك تحذيراً إلى كل الأطراف حتى لا يتجرّأ أحد منها على خرق اتفاقيات وقف إطلاق النار السابقة التي أبرمت مع الأتراك ومع قوات المعارضة والقوات الكردية، إلى جانب دعم أي عمل جوي إسرائيلي ضد إيران، والتعاون مع قسد ضد تنظيم الدولة، وضد الأسد بصورة غير مباشرة، ومحاسبة نظام الأسد من خلال الجهود الدبلوماسية والمعلومات التي يجري جمعها بدعم من عمليات التحقيق الأممية والعمليات القضائية الأوروبية ضد مسؤوليين سوريين، مع التصديق على الجهود السياسية التي تبذلها الأمم المتحدة.

وفي ظل هذه الظروف، تصبح خيارات موسكو محدودة، كونها تعرف بأن الأسد لم ينتصر في هذا النزاع، وليست أمامه أية خيارات واضحة ليحقق ذلك النصر. كما أن الجماعات التي تدعمها الولايات المتحدة وتركيا تسيطر على نحو 30% من التراب السوري، ويشمل ذلك معظم المناطق التي تحتوي على احتياطي النفط في البلاد، وكذلك معظم الأراضي الزراعية. وما يزال نصف الشعب الذي تحول إلى لاجئ أو نازح يخشى العودة لحكم الأسد، ناهيك عن سلاح الجو الإسرائيلي الذي حدّ من نشر الصواريخ الإيرانية في سوريا. وبالرغم من أن المخاطر والتكاليف محدودة بالنسبة لموسكو، فإنها ليست بقليلة، كونها تشتمل على مزيد التدهور بالنسبة لاقتصاد الأسد المتداعي، فضلاً عن ضغوط وتوترات يعاني منها النظام في الداخل، إلى جانب حالة تصعيد غير مقصودة مع القوات الإسرائيلية والأميركية والتركية التي تفوقه بأشواط. في الحقيقة بقي مسؤولون روس كبار حتى أواخر عهد إدارة ترامب يتشدقون بصفقات واتفاقيات يمكن أن يبرموها مع الولايات المتحدة والتي من شأنها إنهاء النزاع في سوريا.

علاوة على كل ما سبق، أصبح الحلفاء الإقليميون لواشنطن اليوم أشد انحيازاً لها واصطفافاً معها، فلقد عمّقت الاتفاقيات الإبراهيمية علاقات إسرائيل مع الدول العربية في الخليج، وكذلك خفف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من نبرته العدائية تجاه شركاء الولايات المتحدة في المنطقة، ناهيك عن انتهاء الخلاف بين قطر ودول مجلس التعاون الخليجي. وهكذا أصبح قادة أهم الدول في المنطقة يشجعون الولايات المتحدة على لعب دور أبرز فيها، ولهذا يمكن حتى لأي جهود قد لا يكتب لها النجاح في إحراز تقدم في الملف السوري أن تعزز الدعم الإقليمي لمكانة واشنطن بعد تقهقرها، مع الإبقاء على حالة الجمود التي تحرم كلاً من إيران وروسيا من تحقيق نصر استراتيجي.

علينا أن نكون على يقين من أن أي مبادرة دبلوماسية مهمة في الملف السوري تعني الكثير بالنسبة للإدارة الأميركية، ولهذا ينبغي عليها التمسك بأي مبادرة، واقتناص أي فرصة لإطلاقها، لأن قيامها بذلك سيقلل من حجم المخاطر بدلاً من ترك النزاع ليستمر إلى أجل غير مسمى، وكذلك الأمر بالنسبة لكل ما يرافقه من مأساة إنسانية ومخاطر أمنية. وبالرغم من أن هذا الاتفاق لن يكون كاملاً ولا مثالياً، فإن إنهاء الحرب في سوريا سيعزز من قيمة واشنطن بشكل كبير بوصفها شريكاً أمنياً في منطقة الشرق الأوسط وسواها.

  

  المصدر: فورين أفيرز