توقيف أمجد يوسف: النظام بين الدولة والعصابة

2022.05.23 | 06:27 دمشق

copy-of-3-stills-from-the-massacre-2of4-768x432.jpg
+A
حجم الخط
-A

رغم مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على توقيفه، لم تعلن سلطة الأسد عن احتجازها للمساعد أول أمجد يوسف، المتطوع في شعبة المخابرات العسكرية، والمرتكب الأساسي لمجزرة حي التضامن الشهيرة.

لا تُعرف، حتى الآن، الدوافع الحقيقية لهذا الإجراء ولا النتائج المنتظرة له. طالما أن يوسف لن يكون في وارد إنكار جرائمه الثابتة التي كانت تبدو له، حتى وقت قريب، نوعاً من السلوك المعتاد الذي لا يستأهل أي عقوبة. خاصة أنه الآن بين أيدي «زملاء» يعرف تماماً ما يستطيعون فعله طالما أتت الأوامر من «المعلم»، أي «معلم».

ربما جاءت النصيحة من بعض حلفاء النظام ممن يُبدون حرصاً ظاهراً على ترقيع أطلال «الدولة» السورية و«مؤسساتها» المفترضة، لا سيما أمام فضيحة بهذا الحجم والفجاجة والذيوع.

غير أن معلَماً ثابتاً من ملامح الحكم الأسدي، غيّبته السنوات الأخيرة بشدة، يجدر أن لا يبعد عن الذهن في تحليل سلوك كهذا. وهو تكوّن هذا الحكم من خلطة عجائبية هجينة من عنصرَي الدولة والعصابة اللذين يتبادلان الأدوار دائماً.

تعود مورثات هذه الخلطة إلى عهد الأسد الأب الذي تسلم، عام 1970، دولة لم تكن قد تهتكت خلال السنوات السبع المنصرمة من حكم البعث رغم القمع والتجاوزات. وقد ضمت الدولة المقصودة ذاكرة قريبة من الحريات، وموظفين معتّقين في مراكز مؤثرة في الوزارات، ونقابيين لم يستمرئوا الذل، وبقايا حية لأحزاب، وشركاء في «الحركة التصحيحية» التي رفعته إلى السلطة ظنوا، لسوء تقديرهم، أن لهم حصة من الحكم والحزب. والأرجح أنه تعب، نسبياً، حتى استكمل ترويضها قرابة منتصف الثمانينيات.

القلة القليلة ممن عرفوه بعمق، نتيجة العشرة الطويلة، فقد حرصوا على إخفاء قدرتهم على التنبؤ بقراراته وتركوا له الاستمتاع بالغموض المفترض للمتأله الذي يخفض ويرفع

لكن هذا مجرد جزء من الحكاية وإن كان بارزاً. إذ يبدو أن لعبة تفكيك الدولة استهوت الأسد المنعزل في مكتبه، بطبيعته النظامية الأصلية ودواعي تجاهله القانون مراراً بغرض الاستمرار على العرش، فرأى أنه من المفيد الاحتفاظ بكلا الورقتين في جيبه، متلاعباً بمسؤوليه إذ يراوح بين إبراز هذه أو تلك بشكل محيّر. فهو الوحيد الذي يمتلك تفسير مراوغته وسر انقلاباته غير المنتظرة. ومن المعروف أن هذه السمة، أي عدم قدرة «الخصم» على توقع سلوكك، هي إحدى وصفات الانتصار. وفي الديكتاتوريات الانقلابية فإن أعوانك هم أقرب خصومك.

عرف رجال حافظ الأسد هذه الخصلة فيه فاستعدوا للاحتمالات المتناقضة دوماً. فقد تخرج من لقائه بالتكليف بمنصب أعلى أو مهمشاً إلى المنزل، وربما تحال للمحاسبة في حالات قصوى. ولكل من الحالات لديه مبرراته المنظمة التي قد يسردها بصوته الخفيض. أما القلة القليلة ممن عرفوه بعمق، نتيجة العشرة الطويلة، فقد حرصوا على إخفاء قدرتهم على التنبؤ بقراراته وتركوا له الاستمتاع بالغموض المفترض للمتأله الذي يخفض ويرفع.

خلال عقود من الحكم تسربت هذه الآلية في السلوك من القصر الجمهوري في حي المهاجرين إلى مفاصل النظام. ورغم أن آلاف المقلدين لم يبلغوا درجة براعة «المؤسس» إلا أنهم، بما استطاعوا اقتباسه منها، كانوا قادرين على إدهاش من حولهم بالتساهل في تطبيق القانون حيناً، والتبرز عليه أحياناً، ونفض الغبار عنه فجأة وإشهاره في وجه من شاؤوا، لابتزازهم أو استجابة لأوامر مستجدة غير معروفة.

وهكذا عاشت سوريا حالة من التناوب غير المنتظم بين القانون واللا قانون وقع تحت وطأتها الجميع، وزادت مع ارتفاع الرتبة في مسالك النظام المعقدة والخطرة إلا على رجل واحد منفرد في القمة. وضمن هذه الثنائية يمكن رصد مئات القصص غير المفهومة في التاريخ السوري المعاصر، من إطلاق اليد إلى درجة مفرطة وحتى المساءلة، دون أن يعني هذا تفسير هذه الحالات، بسبب غياب المعطيات من تقارير مخابراتية، وشبكة العلاقات والولاءات المتشعبة، وحسابات الأسد.

ربما يصنف في خانة «ضعاف النفوس» الذين استغلوا ثقة القيادة وخانوا مسؤولية «البدلة العسكرية»، التي لم تكن يوماً من الأعوام الأحد عشر الفائتة إلا مضرجة بدماء مواطنيها، بشكل عام ومنهجي

غير أن خطوطاً ثلاثة اتبعها النظام مؤخراً ربما تلقي ضوءاً مفيداً على ما يجري. وهي مسارات قد تكون متكاملة وإن بدت متنافرة. وأعني وصول إشعارات بوفاة معتقلين إلى أمانات سجلاتهم المدنية؛ و«العفو» عمن تبقى من أبريائهم؛ ومحاسبة بعض من اشتهر بالتشبيح وارتكب انتهاكات تجاوزت كل حد وأمكن استضعافه والقدرة عليه. تتكامل هذه المسارب في أنها تؤدي، في النظر العليل للنظام، إلى طي «صفحة الحرب» واستعادة صورة الدولة بعدما أمعن في الجنوح أثناءها إلى خيار العصابة. فكل حرب تقوم على وجود «شهداء»، وها هو يعيّن ذويهم في الوظائف الحكومية المتوافرة؛ وإلى «مجرمين»، وقد تم إعدامهم كما تؤشر القوائم الواردة إلى «النفوس»؛ وإلى عائدين إلى المجتمع بعد التغرير بهم، وقد تم العفو عنهم؛ وإلى أفراد أو فئات صغيرة من قوات النظام ارتكبت «تجاوزات» قانونية هنا أو هناك، مستغلين انشغاله بالتصدي المحموم للحرب الكونية.

وكما تم فرز مئات آلاف السوريين إلى إحدى الفئات السابقة، بالمصادفة أو لعوامل شتى غير منتظمة؛ يبدو أن الحظ السيئ أوقع أمجد يوسف في شر أعماله بعدما نشرتها صحيفة الغارديان، وربما يصنف في خانة «ضعاف النفوس» الذين استغلوا ثقة القيادة وخانوا مسؤولية «البدلة العسكرية»، التي لم تكن يوماً من الأعوام الأحد عشر الفائتة إلا مضرجة بدماء مواطنيها، بشكل عام ومنهجي.