تنازلات سورية-إيرانية أمنية لا سياسية

2023.06.10 | 05:45 دمشق

تنازلات سورية-إيرانية أمنية لا سياسية
+A
حجم الخط
-A

خرج الأستاذ مشاري المطيري العامل في الخطوط الجوية السعودية من أحد مطاعم "البيال" في بيروت بشكل طبيعي قبل أن يفقد التواصل معه بشكل كامل. تسارعت التحقيقات لتكشف ملابسات الحادثة بوقت قياسي. تبين أن الخاطف هو علي زعيتر، تاجر المخدرات المعروف بـ “أبي سلة"، ويعاونه في العملية 7 أفراد من عصابته. أما خلفيات الحادثة بحسب الأجهزة الأمنية فمالية. فقد تواصلت هذه المجموعة مع ذوي المطيري وطلبوا منهم فدية 400 ألف دولار لإطلاق سراحه.

مع الأسف فإن مثل هذه الأحداث اعتيادية في لبنان على إثر الانفلات الأمني والمعيشي الحاصل، ولكن المفارقة هذه المرة أن المخطوف سعودي الجنسية، واللحظة لحظة تقارب على صعيد مختلف قوى المنطقة ولبنان يسعى جاهدا لتحسين العلاقة المتذبذبة مع القيادة السعودية، وهو ما جعل الدولة اللبنانية تستنفر بشكل كامل تقريبا وتكشف ملابسات الحادثة وتحرر المخطوف بشكل سريع.

التعاون في وجه العبث الأمني

تعاطي الدولة اللبنانية لم يكن وحده البارز في الملف بل كان تعاطي حزب الله والنظام السوري لافتاً كذلك، فعصابة "أبي سلة" تتمركز بين سوريا ولبنان وسرعان ما تم نقل المطيري إلى سوريا على اعتبار أنه سيكون من الأسهل إخفاؤه هناك.

تدخل حزب الله بقوة دبلوماسية، كما ظهرت اندفاعة سورية وتنسيق عالي المستوى مع النظام والأجهزة الأمنية المختلفة لتحرير المخطوف. تبنى الجانب السوري القضية وتحرك لحلها وطي الصفحة وهو ما كان مع الأخذ بعين الاعتبار أن الخاطفين محسوبون على محور المقاومة وتربطهم علاقات تجارية مع النظام السوري.

في وقت سابق كذلك شنت قوات الأسد حملات متعددة على تجار المخدرات والمهربين بعيد التقارب السعودي-السوري لكون تهريب المخدرات من سوريا ولبنان إلى السعودية يشكل أحد أبرز التحديات للمملكة.

التمييز بين الأمني والسياسي

يعتقد البعض أن هذه التصرفات تظهر انصياعاً من قبل سوريا وحزب الله لرغبات المملكة وأن المملكة حققت ما تريد بشكل كامل من خلال التقارب مع الأسد. لكن وعلى المقلب الآخر، لم يقدم الأسد تنازلات سياسية مسبقة للتفاوض معه بل إن إيران نفسها رحبت واندفعت للتقارب بينه وبين العرب. فكيف نفهم مختلف التصرفات السورية الإيرانية وهل هي متناقضة؟

من الضروري التمييز بين ملفات النظام السوري السياسية والاقتصادية المعيشية. فالنظام السوري يدرك جيدا أن إيران وقفت معه في أشد أزماته وقبل غيرها وبموقفها هذا ثبتته ولولا إيران وحزب الله لما دخلت من بعدهما روسيا على الخط وأنقذت آل الأسد ودعّمت حكمهم. في كل تلك الفترة كانت السعودية وغالبية الدول العربية مواجهة للأسد واليوم تتقارب معه لمصالح سياسية معروفة تختلف جذريا عن الترابط العضوي الذي تشكل بين الأسد وإيران. عليه، لا يمكن للأسد أن يفضل سياسيا السعودية على إيران مهما قدمت له فما لم يقدمه الأسد تحت القصف لن يقدمه بالتأكيد في الرخاء.

على المقلب الآخر، فإن الأسد بحاجة ماسة للعودة للحضن العربي ومنه لساحة الدولة كما يحتاج لاستثمارات إعادة الإعمار.

استراتيجية الأسد

كما في كل ملفات السياسة فإن المكاسب تحتاج لتقديم تنازلات، فالمساحة التي يمكن أن يقدم فيها الأسد ولا تضر مصلحة إيران لها عنوانان وهما التعاون الأمني-المالي ومحاولة التشارك في مهاجمة منافس مشترك. أما بالنسبة للثانية فتوضحت من خلال مهاجمة الأسد لتركيا بشدة في القمة العربية الأخيرة وهي رسالة للمملكة بأنه من الممكن التعاون في وجه أردوغان ولو أن المملكة تحاول تهدئة كل الجبهات مؤخراً وتصفير المشكلات فإن عدم تفضيلها للقيادة التركية الحالية لن يتغير.

أما العنوان الأول وهو الأمني-المالي فلا يخفى على أحد حاجة سوريا للدعم المالي الكبير وهي التي تستفيد اليوم بشكل أكبر من تجارة المخدرات التي تحولت لمورد مالي أساسي للدولة نفسها. هذه التجارة الرابحة أزعجت الخليج العربي وأصبح من أولى أولوياته وضع حد لها كونه المستهدف الأبرز للتصدير.

بالنسبة للنظام السوري فهو منفتح على تقويض تجارة المخدرات إذا تأمن له مورد مالي موازن وهي صفقة لا تؤثر على النفوذ الإيراني وتهم السعودية في الوقت نفسه، وبالتالي لا مانع من الغوص فيها بعمق. لذلك رأينا ضرب عدد من تجار المخدرات في سوريا مقابل دعم سعودي للمجال الزراعي السوري.

على الرغم من أن ملف المخدرات أحد الملفات المهمة للمملكة إلا أن الطموح السعودي الأول يمكن في فصل الأسد عن إيران وهو ما يبدو بعيد المنال أو مستحيلاً إذا صح التعبير. لذلك تحاول سوريا وإيران إرضاء السعودية بعمليات ضرب تجارة المخدرات وبتصفير المشكلات الأمنية معها وهو ما بدا واضحا في كيفية التعاطي مع عملية الخطف الأخيرة حيث سارعت الأجهزة الأمنية في سوريا وحزب الله لإنهاء الموضوع سريعا كون المجال هذا من المجالات القليلة التي تستطيع فيها سوريا التهدئة مع السعودية.

ماذا بعد؟

استشرافا للمستقبل فإن التعاون السعودي-السوري سيتركز في الفترة المقبلة على الجانب الأمني وسيكون هناك محاولات لنقله للجانب السياسي ليفتح المجال نحو حل لسوريا والمنطقة. إلا أن هذه المهمة ستكون أصعب بكثير من الأولى لأن اللاعبين سيكونون كثراً والمصالح ستكون متضاربة خاصة أن الجانب الأميركي حتى اللحظة لا يبدو متشجعا لإعادة تأهيل الأسد، وملف اللاجئين، ونفوذ مختلف القوى في سوريا ورفض أي منها التخلي عن موقعها ومكتسباتها لن يكون من السهل التعامل معها. كذلك تبرز أسئلة إضافية وهي هل ستنتظر ملفات المنطقة، كالأزمة اللبنانية التي تعتبر أقل أهمية من سوريا، هل ستنتظر لما بعد التوافقات الإقليمية والدولية وانعكاساتها في سوريا مع العلم بأنها لا تتحمل مثل هذا التأخر؟ حتى ذلك الوقت ستحاول المملكة تحقيق قدر من المكتسبات من العلاقة مع إيران وسوريا والتي لن تصل للمأمول على الأرجح.