بين القمع والفن والفنانين

2022.08.31 | 07:12 دمشق

محسن غازي
+A
حجم الخط
-A

وقعت بالمصادفة على شريط مصور لما سموه "مؤتمراً صحفياً" يؤديه مَن قيل لي بأنه مغن سوري غير مشهور. وقد حسبته سيُعلّق على حادث سيارة مؤسف أدى إلى وفاة فنانٍ لبناني أكثر شهرة منه شغل وسائل التواصل منذ وقوعه، ولكنه لم يفعل.

وانتبهت لوجود علمي الدولة وحزبها الحاكم شكلاً والمستباح موضوعاً منذ سبعينيات القرن الماضي. وهنا، وبعد أن كدت أن أتجاوز هذا المشهد لما هو أكثر أهمية أو فائدة تُذكر، انتابني الفضول لأعرف أكثر عن القضية المطروحة والحدث الهام الذي يستحق مؤتمراً صحفياً. فقرأت في أسفل الشاشة لأبحث عن صفة المتحدث، ليتبين لي بأنه نقيب الفنانين في القطر السوري.

حسناً، وماذا بعد؟ إن الذي بعد وهو الأهم أن السيد النقيب يُجيب مبدئياً على أسئلة صحفيين في ظاهرة لم تعرفها الدولة السورية و"مؤسساتها"، على حسب تعبير أحد أشاوس المعارضين الذي يدعو للحفاظ على هذه "المؤسسات"، إلا نادراً جداً. وهنا، فمن فصيح القول بأنني تخليت عن الاهتمام بمعرفة الموضوع الذي يتعلق به هذا المؤتمر الصحفي، وتوقفت عند الشكل الذي استعرضه الشريط أمامي والذي يحتاج إلى تحليل أيكوغنوغرافي وصوتي وما ورائي.

إنه عادةً لقب يُطلق على من يجري انتخابهم بترشيحات وبتوجيهات من الجهات المختصة بها وهي الساهرة بعيونها وجيوبها على مصالح الدولة و"المؤسسات"

ليس من الضروري أن نستعيد اسم هذا النقيب، فهو كما سبق ذكره، مغمور وضئيل الموهبة. أما رتبته هذه، فهي ليست رتبةً عسكرية حتى إشعار آخر لن يتأخّر في الإعلان عن نفسه. إنه عادة لقب يُطلق على من يجري انتخابهم بترشيحات وبتوجيهات من الجهات المختصة بها وهي الساهرة بعيونها وجيوبها على مصالح الدولة و"المؤسسات". مثل هؤلاء ومن في حكمهم، يقبعون على رأس وصدر وأقدام كل النقابات العلمية والاتحادات المهنية والجماعات الأهلية، وصولاً الى المقاهي.

من شبه المؤكد أن أحدهم من ذوي الخبرة والاختصاص قد أومأ للفنان النقيب بأن رؤساء الدول وكبار المسؤولين عندما يجرون مؤتمرات صحفية، فمن البديهي أن يزين خلفيتهم المضاءة علم البلاد. بالمقابل، فقد وجد هو ومعشر قومه أن في الزيادة إفادة، فوضعوا بدلاً من العلم، اثنين، أحدهما للدولة التي عينته والثاني للحزب.

ويُعتقد، بأن مستشاره للشؤون الدولية قد سبق أن اقترح أن يُضاف إليهما علم الجامعة العربية وعلم الاتحاد من أجل المتوسط وعلم الفيفا.. إلا أن المكان ليس حمّال أعلام مهما كان منصب النقيب حمّال أوجه. والمثير، نعم أن هناك الكثير مما يُثير في هذا المشهد السوريالي، كان عدد كبير من الميكروفونات قد أخذ مكانه على طاولة صغيرة أمامه. وقد كان حريا بهذه الطاولة أن تحتوي على كأسٍ من المتة أو فنجان من القهوة، إلا أن نداء الواجب أحلّ محلها ميكروفونات تحمل على تيجانها الإسفنجية ما لذّ وطاب من شعارات الصحف والقنوات والإذاعات السورية "الحرّة" بشكل لا يفسح مجالاً للشك، إلا لكل من تسوّل له نفسه الأمّارة بالسوء التشكيك في أن السوريين والسوريات يعيشون "عايشين" في ظل ديمقراطية صناعة محلية غير مستوردة من دول الاستعمار، وحيث يتوجب علينا ان نعرّفها بما يتناسب مع معركة الأمة وذودها عن حياض الوطن والأمة.

الكاميرا تصوّر سيادة النقيب ومن جاوره في المقعد من الصامتين وغير الموضحة مهامهم. أما الصحفيون والصحفيات فلا كاميرا لهم ولا من يحزنون

الكاميرا تصوّر سيادة النقيب ومن جاوره في المقعد من الصامتين وغير الموضحة مهامهم. أما الصحفيون والصحفيات فلا كاميرا لهم ولا من يحزنون. وحتى أصواتهم مكتومة عند طرح الأسئلة لنسيان جلب الميكروفون المتنقل أو أنه قد بيع في إطار سياسة التقشف التي يتبعها معظم مسؤولي البلاد على حساب الباقي من المواطنين.

أعادني المشهد قرابة عقود ثلاثة إلى الوراء حيث أديت خدمة العلم وكانت حواراتنا تجري كضباط مجندين مع الضباط العاملين من أصحاب الرتب الأعلى. فقد اتسمت لهجة نقيب الفنانين هذه بعنف لفظي وجسدي أشد وطأة من أسوأ من قابلتهم من أصحاب الرتب العسكرية. بل فقد جارى نقيب الفنانين عناصر وضباط الأمن بلغتيه الجسدية والشفهية. وكان نزقاً وقاطعا وهازئاً ومكرراً ومقاطعاً ومخرّساً. كأني به مديرُ سجنٍ يجتمع إلى السجناء في باحة التنفس سائلاً إياهم عن أوضاعهم لملء تقريره والانصراف. لا بل أعتقد بأن التعامل في السجن ربما يكون أكثر رحابة. وبالطبع، فالمقصود هنا السجون الجنائية وليس المعتقلات السياسية التي فيها، إن لم يمت المعتقل تحت التعذيب الجسدي، فهو حتماً سيلقى تعذيباً نفسياً لا يتوقف البتة.

هل هذا النقيب / الظاهرة، صاحب الثقافة الأمنية والقمعية، هو الوحيد من نوعه؟ بالتأكيد لا، ولكنه نقيب فنانين، أي أناس مطالبين نظرياً بأن يكونوا حساسين ومرهفين وأحياناً، مثقفين. والتعامل معهم يستحق رتبة أعلى ولو كانت أمنية وغير فنية.

هذا المغني الصاعد إلى موقع النقيب، هو نموذج مثالي عن منفذي ثقافة الخوف التي تُحلُّ ممارسة القمع في كل مجال تهيمن عليه. إنه تلميذٌ نجيبٌ حفظ درسه الذي حط من علٍ كجميع نظرائه من "قادة" المؤسسات والجهات الأخرى التابعة للحكومة وأجهزتها التي لم تزل ساهرة حتى نهاية هذه السطور. وهنا، يحق لنا أن لا نستغرب تصريحات الممثلة منى واصف التي تعطي دروساً بالوطنية. مع هكذا نقيب، أين المفر؟