السرقة الأدبية والسرقة العلمية

2023.01.07 | 06:18 دمشق

السرقة الأدبية والسرقة العلمية
+A
حجم الخط
-A

حدثتني صديقة بإعجاب عن رواية أنهت قراءتها باستمتاع لكاتب عربي مرموق حاصل على عدة جوائز. وكعادة عموم من يُنهي عملاً أدبياً أو عملاً سينمائياً، فهو لا يكتفي باستعراض أهم محاوره، بل يخوض في أدق تفاصيله، حارماً إياك غالباً من أن تقرأ أو تشاهد العمل بنفسك. هذه الطريقة المزعجة في سرد الأعمال، أتاحت لي بأن أجد تشابهاً غريباً بين ما تسرده الصديقة وما سبق لي أن قرأته منذ سنوات لكاتب أجنبي. وعوضاً عن مقاطعتها سعياً لحفظ أسرار العمل حتى أكتشفها بنفسي، وجدت نفسي أطلب منها المزيد من السرد التفصيلي. ومردُّ هذا السعي كان لشعوري بأنني أسترجع العمل الأدبي الأجنبي بحذافيره. ولقد أصابتني الدهشة من هذا التطابق العجيب بين العملين. ودفعني هذا التشابه شبه الكامل إلى التفكير سذاجةً بتقاطع غير إرادي للأفكار لدى كاتبين يتحدثان عن مرحلة عصيبة مرت بها بلداهما في ظل حكم نظام عسكري متسلط. وفي حين تخلص البلد الأجنبي من الاستبداد بثورة بيضاء أعادت الحياة الديمقراطية، قامت ثورة مضادة ضد ثورة الحرية في البلد العربي وأعادته إلى حظائر العسكر واستبداد السلطة.

الكاتب العربي قد نسخ قصة الأجنبي من دون أن يكلف نفسه عناء الإشارة إلى نوع من الاقتباس أو التأثر الأدبي

الفوارق بين النصين طفيفة لا تتعدى أسماء أبطال العمل والأماكن. ويبدو للقارئ بأن الكاتب العربي لم يبذل أي جهد لتغيير بعض التفاصيل أو استبدال بعض الفقرات. وبالنتيجة، واستنادا إلى تاريخ إصدار العملين الذي يوضح بجلاء بأن النص الأجنبي يسبق تاريخاً نسخته العربية المترجمة تقريبا والموقعة باسم أديب كبير، تأكدت بأن الكاتب العربي قد نسخ قصة الأجنبي من دون أن يكلف نفسه عناء الإشارة إلى نوع من الاقتباس أو التأثر الأدبي. وبما أنني لست بناقد أدبي وقد طغت قراءاتي السياسية على الأدبية، فأنا غير مؤهل لجرد مجموع ما نسخه كتاب كبار من أعمال أجنبية ليتحولوا بفضلها إلى نجوم ومشاهير. لكنني أراقب هذا الأداء لدى من يعمل في حقل البحث العلمي وفي الصحافة عربياً وأجنبياً.

في فرنسا، طلب مني زميل في التدريس تقييم دراسة قدمتها له طالبة دراسات عليا في مجال الإعلام من بلد عربي شقيق. وبعد أن اطّلعت على النص تفصيلاً، أبديت له إعجابي الشديد بالمنهجية وبالمعالجة مقترحا حصول الطالبة على ثناء منه على عملها هذا. وفي نفس الوقت، أشرت إليه بضرورة تحديث بعض المعطيات نتيجة ورودها بالاستناد إلى تواريخ قديمة وبالتالي، فمن المؤكد بأن هناك تغيرات قد وقعت منذ ذلك التاريخ المشار إليه. وفي صحوة مفاجأة، توقفت أمام هذه الخلل في الإشارات التاريخية لأنتبه بذهول إلى أن إعجابي بالنص وبالمعالجة لم يكن نابعاً سوى من نرجسيتي غير المقصودة، فأساس العمل "الجيد" الذي بين يدي لم يكن سوى استعادة لورقة بحثية مطولة نشرتها أنا نفسي منذ نيفٍ وخمسة عشر عاماً! وبالتأكيد، فليس المجال هنا متاح للتوسع في الشعور الذي اعتراني أمام هذا الاكتشاف والذي نبهني إلى واقع التقدم في السن وتأثير ذلك سلباً على الذاكرة والذي سأحتفظ به لنفسي. وبعد أن استيقظت من هول المفاجأة، طلبت من صديقي أن يرسل في طلب تلك الطالبة النجيبة التي، عندما استعارت بحثي بجرأة تُحسد عليها، لم تكن على علم بأن تقييمه سيعود لي. وعند مواجهتها، ادّعت أنها استفادت فعلا من البحث دون النقل الكامل.

لقد تطوّر العمل الأكاديمي ووسائله في يومنا هذا، وخصوصاً في العلوم الإنسانية، بحيث وضعت التطبيقات الحديثة اللازمة التي تقوم بمقارنة النصوص. ومن خلال استخدامها، يمكن أن تكشف في ثوانٍ وقوع ما يسمى بعملية النسخ. بالمقابل، وحتى بتجاوز مرحلة الدراسة، يوجد عدد من الباحثين والباحثات، خصوصاً أولئك ممن يستهينون بالقارئ، الذين استطاعوا أن يلتفوا على هذه التطبيقات من خلال تغيير في صياغة الجمل واستبدال بعض الكلمات المفتاحية بمرادفات مناسبة. وفي المحصلة، فهم يستغلون "نباهتهم" في السرقة الأدبية، والتي تستغرق منهم وقتاً لا بأس به، إن هم خصصوه للعمل البحثي الجدي لكانوا قد أفلحوا والله أعلم.

وصل الأمر بوقاحة البعض أنهم يواجهون صاحب الفكرة والتحليل إن تجرأ وعاتبهم، بأنه يجب أن يشعر بالسعادة لأنهم أتاحوا لفكرته أن تُكتب وتنتشر

في زمن قريب، كان بعض العاملين في حقل الكتابة الصحفية يلجؤون الى أسلوب ناجح دائماً، خصوصاً إن جفت منابع المواضيع التي يمكن أن يعالجوها في مقالاتهم الدورية. هذا الأسلوب يعتمد على محاورة صديق له باع في التحليل أو التفكير النقدي دون أن يسعى لتحويله إلى نص. فيستنبطون منه موضوعهم ومعالجته ليحرروا مقالهم العتيد. عندما يقرأ صاحب الفكرة والتحليل ما عبر عنه شفهياً على الهاتف أو أمام فنجان من القهوة في الصحيفة، يشعر بالغصّة لأن الكاتب لم يشر حتى إلى "مناسبة" الحوار الذي أوحى له بالنص. ووصل الأمر بوقاحة البعض أنهم يواجهون صاحب الفكرة والتحليل إن تجرأ وعاتبهم، بأنه يجب أن يشعر بالسعادة لأنهم أتاحوا لفكرته أن تُكتب وتنتشر.

في أثناء دراستي في فرنسا، كانت أستاذتي المشرفة من أبرز المختصين بشؤون الشرق الأوسط ولها عشرات الكتب ومئات المقالات العلمية. وفي إصدارٍ لها عن سوريا، كتبت إلى جانب العنوان: ما كان لهذا النص أن يرى النور لولا مساعدة "الزميل" الذي كان أنا "الطالب". علماً بأن كل ما فعلته هو مناقشتها بشكل متقطع في الموضوع خلال فترة إعدادها للكتاب.