بئر التعاطف

2022.02.09 | 05:52 دمشق

akhraj-altfl-ryan-671x405.jpg
+A
حجم الخط
-A

يسقط الأطفال في الحفرات الأرضية، ويسقطون في الآبار، ويسقطون في الأنهار وفي البحيرات، يسقطون عن المرتفعات، عن الأشجار، والمراجيح، يتعرض الأطفال للسقوط في كل مكان، وفي أي مكان، الطفل الذي في الخامسة من عمره هو مجرد طفل، لا يمتلك بعد إدراك المسافة الآمنة بينه وبين الأشياء، ولا يدرك الخطورة في خطوته القادمة إلا بما تمليه عليه غريزة البقاء، وفي حالات كثيرة يكون فضول الاكتشاف لدى الأطفال أقوى من الغريزة، فتحدث لهم أخطار لم تكن في حسبانهم ولا حسبان أهاليهم، لا داعي إذا لإلقاء الذنب على عائلة طفل البئر المغربي ريان بمأساته، يكفيهم ألم فقدانهم له، ويكفيهم الحزن الذي سيعيشون معه طيلة حياتهم.

أي مسبب للخطر هو نتيجة خطأ ما من الحكومة، وعليها أن تتحمل المسؤولية هكذا فقط، بكل بساطة

حوادث كهذه يمكن أن تقع في كل مكان في العالم، هذا مؤكد، غير أنه في المجتمعات والدول المتقدمة، تلك الحريصة على حياة أفرادها دون استثناء، تلك الدول التي لا يوجد بها مراكز وأطراف، التي تعامل أصغر بقعة بأبعد مكان فيها معاملة العاصمة أو المدن الكبرى، من حيث الخدمات والتنمية والرفاهية والأمان والسلامة الشخصية، في تلك البلاد لا يمكن أن يترك بئر عتيق  مهجور في قرية ما مفتوحا هكذا، في تلك البلاد، يتم تزويد كل شيء بكل وسائل الأمان التي تحمي الأطفال من الأذى والمخاطر، في تلك البلاد سوف يردم بئر كهذا  بكل عناية، وسوف تمهد الأرض فوقه، بحيث يزول أدنى احتمال لأي خطر، وفي تلك البلاد المتقدمة أيضا، لو حصل أن تعرض طفل لخطر مشابه لتم إنقاذه خلال ساعات مهما كان الوضع سيئا، ثمة خطط توضع مسبقا لحالات طارئة كهذه، وثمة دول أخرى جاهزة للمساعدة في حال عجزت دولة ما عن إتمام عملية الإنقاذ، هل نعطي أمثلة؟ علينا أن نفتح محرك البحث غوغل ونكتب عبارة (عملية إنقاذ) فقط وسوف نقرأ ونشاهد ما يجعلنا نحني رؤوسنا احتراما للعلم وتطوره ولتلك الدول التي تعرف كيف تحترم مواطنيها وتقدرهم دون أن تتجند الصحافة والإعلام لرفع آيات الشكر لسيادته أو سعادته أو حضرته أو جلالته أو طال عمره، ذلك أن إنقاذ طفل أو مواطن من خطر محدق به هو واجب سيادته وسعادته وحضرته وجلالته وطال عمره، لن يشكر لشيء كهذا، لا في الصحافة ولا في الإعلام، ولن يفكر أحد من عائلة الشخص الذي تم إنقاذه بالتوجه بالشكر والامتنان لما فعله، هو يفعل ما يفرضه عليه واجبه، ذلك أن الحكومات تتحمل مسؤولية ما يحيق بمواطنيها من الأخطار، لأن أي مسبب للخطر هو نتيجة خطأ ما من الحكومة، وعليها أن تتحمل المسؤولية هكذا فقط، بكل بساطة، يحترمون مواطنيهم ويقدرون حياتهم أينما كان ومهما كانت وظيفته أو مهنته أو وضعه الاجتماعي أو المادي، الإنسان في تلك البلاد محترم لذاته لإنسانيته لمواطنته، لا لأي شيء آخر.

ل ابأس، ربما قامت الحكومة المغربية بما عليها لإنقاذ ريان من البئر الذي سقط فيه، رغم كل ما قيل ورغم كل الملابسات التي تحيط بمحاولة الإنقاذ التي تناقلتها مواقع التواصل الإجتماعي، ورغم كل البروبغاندا السياسية التي غلفت عملية الإنقاذ، إلا أنه، وفي إطار ما يحدث في هذه البقعة البائسة المسماة بـ "العالم عربي"، لا بد من الإشادة بالجهود المغربية المبذولة لمحاولات إنقاذ الطفل ذي السنوات الخمس والتي انتهت بإخراجه جثة هامدة بعد عدة أيام من سقوطه، لكن هل هذا سوف يغير من حال الإهمال والفقر في المناطق الريفية في المغرب أو أية دولة عربية أخرى؟ حتما لا، فحقوق المواطنين هي آخر ما تفكر به الأنظمة العربية، هذا طبعا بما يخص الأنظمة التي تعترف أن لديها مواطنين لكنها تتعنت عن منحهم حقوقهم التي تكفلها لهم كل القوانين الدولية، من حق الحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية، إلى التعليم والطبابة المجانية، إلى حقوق حماية الأطفال من العمالة والتجارة بهم، إلى حق المواطنين في قضاء عادل ومساواة بين كل أفراد المجتمع باختلاف هوياتهم ما قبل المواطنة، حينما يتحقق الحد الأدنى من ذلك، يمكننا القول إن هذه أنظمة وطنية لديها فرصة لتحسين أوضاع شعوبها بطريقة ما يوما، ولديها فرصة لإقرار حق المواطنة بكل ما لدى المواطن من حقوق وواجبات مثله مثل مواطني الدول المتقدمة، دون أن يكون ذلك منة أو هبة أو هدية أو مكرمة من الحاكم رئيسا أو ملكا أو أميرا أو جنرالا أو أي شيء آخر، إلا أن حق المواطنة في الدول المتقدمة هو تحصيل حاصل، حدث نتيجة تضحيات كبيرة قديمة ومتراكمة دفعتها الشعوب سابقا، وتسعى للحفاظ عليها ضد أية محاولات للسلطات الحاكمة بالانتقاص منها، بينما في بلادنا (بلاد العالم المتخلف)، يبدو أننا ما زلنا في النقطة الأكثر بعدا عن تحقيق مكاسب شعبية ومواطنية، نحن حاليا في مرحلة كسر عظم الشعوب، كسر أحلامها، كسر كراماتها، نحن في مرحلة إذلال الشعوب ووأد كل محاولاتها للتنفس، هذا أيضا في الدول العربية المستقرة نسبيا، أما في باقي الدول فنحن في مرحلة إبادة الشعوب أو استبدالها بشعوب (مفيدة)، عبر الاعتقال والتعذيب والقتل والتهجير والحرمان من أقل وسائط العيش، والتضييق حتى الموت كمدا، وهذا كله يحدث تحت سمع وبصر العالم أجمع، على الهواء مباشرة، دون أن يرف للعالم المتقدم جفن واحد، كما لو أن ذلك يحدث في فيلم سينمائي تشاهده البشرية وتتفاعل عاطفيا مع أحداثه ثم بعد قليل تنسى الفيلم الحزين وتبدأ البحث عما هو أكثر إثارة أو بهجة.

بات واضحا أن المآسي الجمعية لم تعد تهم أحدا، ذاك أن الدم والقهر والحزن إذا ما ازداد أصبح مملا، يتجنبه الآمنون خشية العدوى

هل ستنفع المطالبات بهاشتاغات متعلقة مثلا بأطفال سوريا المعتقلين أو المخطوفين أو الجائعين أو المشردين أو المحرومين من التعليم ومن اللعب ومن الطفولة، أسوة بالهاشتاغات المتعلقة بالطفل المغربي الذي سقط في البئر؟! منذ عشر سنوات وأطفال سوريا يسقطون واحدا تلو الآخر في آبار أكثر ظلاما وعمقا وظلما، سوريا كلها تسقط معهم، لم تنفع الهاشتاغات ولا الفن ولا الكتابة ولا الندوات ولا الصور ولا المظاهرات ولا الاحتجاجات ولا الاعتصامات ولا أي شيء، كل يوم يزداد عمق البئر الذي تسقط فيه سوريا بأطفالها وشعبها كله، وكل يوم يشيح العالم ببصره عن سوريا أكثر من اليوم السابق.

بات واضحا أن المآسي الجمعية لم تعد تهم أحدا، ذاك أن الدم والقهر والحزن إذا ما ازداد أصبح مملا، يتجنبه الآمنون خشية العدوى، لهذا يبحثون عما هو أخف وطأة ليفرغوا طاقة التعاطف، كحادثة الطفل المغربي، الذي كان واضحا منذ الإعلان عن عمق البئر أنه لن ينجو، لكن الحادثة كانت فرصة مناسبة للتعاطف مع حادثة لا يحمل التعاطف معها أي تبعات أو تصنيفات، لما لا نتعاطف إذا لاعنين البئر الذي سحب الطفل إليه دون رحمة؟