icon
التغطية الحية

"النار بالنار" من النزوح السوري إلى الصوفية.. الدراما المشتركة تقع في فخ التنميط

2023.05.04 | 10:28 دمشق

مسلسل النار بالنار
مسلسل النار بالنار للمخرج محمد عبد العزيز
تلفزيون سوريا ـ وائل قيس
+A
حجم الخط
-A

قدّم المخرج محمد عبد العزيز بالاشتراك مع الكاتب بشار عباس مسلسل "ترجمان الأشواق" في 2019، والذي كان من المفترض أن يكون واحداً من الأعمال الجريئة، على ما جرى من ترويجه في ماكينات وسائل الإعلام بالنظر إلى تأجيل عرضه بعد أن مقرراً في 2017. يومها نال المسلسل شهرته من عنوانه المقتبس من كتاب لمولانا محي الدين بن عربي بالعنوان عينه، ويقال إنه كتبه عندما وقع بحب النظّام بنت أبي شجاع الأصفهاني. حيثُ روى المسلسل قصة معاصرة تجمع بين ثلاثة أصدقاء يساريين، تحوّل أحدهم إلى العمل الفكري، ووجد ثانيهم هداية نفسه بالصوفية، بينما استمر الثالث بالحفاظ على فكره اليساري.

ويعود عبد العزيز في الموسم الرمضاني الذي انتهى مؤخراً مع مسلسل "النار بالنار" عن قصة رامي كوسا، وسيناريو ورشة الصبّاح، وإنتاج شركة سيدرز آرت برودكشن، بينما ضم طاقم التمثيل المرصّع بالنجوم عابد فهد بدور عمران، جنباً إلى جنب مع كاريس بشار بدور مريم، جورج خباز بدور عزيز، طارق تميم بدور جميل، ساشا دحدودح بدور قمر، طوني عيسى بدور زكريا، زينة مكي بدور سارة، جمال العلي بدور أبي رضا، بالإضافة إلى تميم محمد عبد العزيز بدور بارود، والذي يسجل أول ظهور درامي له.

تدور أحداث المسلسل – كما شاهدنا جميعا – في حي السرور المتخيّل، وهو على ما يبدو مستوحى من مسرحية "نزل السرور" لزياد الرحباني، حيثُ يسكن في الحي مجموعة من الأشخاص المتنوّعين اجتماعياً وثقافياً من السوريين واللبنانيين. ما كان واضحاً أن "النار بالنار" أراد تناول قضية النازحين السوريين في لبنان، وتصاعد الخطاب العنصري تجاههم، لكنه فشل في ذلك، بعدما أدخل مجموعة من القضايا الكلاسيكية والمعاصرة التي أسهمت بضياع القصة منذ الحلقة الخامسة، بالإضافة إلى فقدانه عنصر المفاجئة في حلقاته الأخيرة، فهو بدلاً عن ذلك يجعل بارود يعتمد على موقع يوتيوب في عملية الولادة، ولعل هذا مثال واضح على الحال التي وصلت إليها أعمال الدراما الاجتماعية من استسهال في طرح الأفكار غير المنطقية.

ومثل "ترجمان الأشواق" يحضر في "النار بالنار" القضايا الإشكالية التي أفرزتها الحالة السورية الراهنة على جميع أطراف النزاع، بما فيهم أصحاب الرأي المحايد. هكذا يروي العمل الدرامي المشترك مجموعة قصص يتداخل فيها التطرف مع المفقودين سواء أكانوا لبنانيين أم سوريين، معيداً النبش بتاريخ الحرب الأهلية اللبنانية، ومفرزات الوجود العسكري السوري في لبنان باستخدامه ذريعة للخطاب العنصري المتصاعد تجاه اللاجئين السوريين في لبنان. ويضيف على القصة خليطاً من قصص اليسار المهزوم، وتحديات التيك توك، وغيرها من مفرزات القضايا الاجتماعية التي جعلت المسلسل يقع في مطب الإطالة والحشو الذي أدى في النهاية إلى ضياع القصة الأصلية.

ومع الأسف، فإن "النار بالنار" الذي كان متوازناً في طرح قصته في حلقاته الخمس الأولى، فيها بالتأكيد مشاهد مكررة، مثل منح شخصية بارود مساحة أكبر من حجمها، وهو ما أخر ظهور شخصية مريم حتى الحلقة الثانية، رغم أنها واحدة من الشخصيات الرئيسية في العرض. وكان واضحاً منذ الحلقة السادسة الطريقة التي رسم بها عبد العزيز مع ورشة الكتابة المسار العام للمسلسل، فالنظرات المتبادلة بين بارود ورؤى (فيكتوريا عون) كانت تدل على أنهما سيحظيان بنهاية سعيدة، مثلما كان واضحاً أن مريم وعزيز يسيران على خط واحد لتكوين علاقة عاطفية بينهما، رغم التناقض الحاد في شخصيتهما، وأن عمران، المرابي الذي يذكّرنا بشخصية شايلوك في مسرحية "تاجر البندقية" لويليام شكسبير، تنتظره نهاية مأساوية بعد رفض مريم الزواج منه.

عندما تم الإعلان عن المسلسل، أُشير عبر عديد المواقع المتخصصة، بما في ذلك موقع سينما كوم، إلى أن قصة "النار بالنار" تدور حول، وهنا أقتبس: "مريم مدرسة سورية نزحت إلى لبنان لتعمل بائعة خبز، تُجبرها الظروف على التعامل مع عمران - مُرابٍ سوري لبناني - يفرض الخوّات المالية، ويفتعل المشكلات في الحي"، إضافة إلى حديث لكاتب المسلسل حول شخصية زكريا المفترض أن يكون سائق سيارة أجرة، كما ورد في النص الأصلي، قبل أن يختار عبد العزيز تحويله إلى تاجر عقارات يحاول شراء الحي دون أن يقدم أي توضيح أو مبرر عن السبب الذي يجعله يريد استملاك جميع المنازل في حي السرور.

في تطرق "النار بالنار" للتطرف أو التصوف أو حتى فكرة النزوح السوري واليسار المهزوم، تغيب مناقشة مثل هذه القضايا الاجتماعية والفكرية بأفكار معاصرة في مقابل المضي قدماً بقولبتها وتنميطها في أطر عبثية لا هدف منها إلا ملء مساحات زمنية على الشاشة في سباق الموسم الرمضاني، رغم محاولة طاقم التمثيل تقديم عملاً مختلفاً، لكنه سقط في هفوات نصية غير متوازنة. منها مثلاً مسألة خلع حجاب مريم الذي نال نصيبه من النقد على منصات التواصل الاجتماعي. فشخصية مريم التي رسمها "النار بالنار" غير مهيئة بالأساس للإقدام على هذه الخطوة، وكأن الهدف كان محاولة التأكيد على رغبتها بتغيير حياتها بعد سفرها إلى ألمانيا، بدلاً عن تقديم الصراعات النفسية والتحولات الاجتماعية التي تعيشها الشخصية قبل الإقدام على مثل هذا القرار المصيري.

وحتى الشخصية نفسها تم بناؤها على مجموعة من المتناقضات التي لا تمت بصلة لسكان حي الشيخ محي الدين الدمشقي، إلا في طريقة سيرها، وملابسها الملتزمة دينياً في أولى حلقات المسلسل، عدا ذلك أرهقت الشخصية بالتنميط والتحولات غير العقلانية. ومع ذلك حاولت بشار أن تقدم دوراً متميزًا في عكسها للصراعات الداخلية التي كان تمر بها على طول حلقات المسلسل، قبل أن يقرر صناع "النار بالنار" إقحام "جرائم الشرف" في الحلقة ما قبل الأخيرة، حيثُ أصبح من النادر مرور مسلسل دون أن تحضر "جرائم الشرف" في قصته، حتى مسلسل "الزند: ذئب العاصي" لم يسلم منها.

هكذا، تداخلت القصص التي يرويها المسلسل دون أن تقدم عملاً يحاكي مجموعة من القضايا الاجتماعية الكلاسيكية أو المعاصرة، ومنها إقحام الصوفية، والإشارات المكررة لـ"صاحب الجبة" في كناية عن مولانا ابن عربي دون أن يقدم تفسيراً لهذا التكرار، إلا من ناحية ربطه بالبيئة الملتزمة التي نشأت فيها مريم، ولربما هذه النشأة هي السبب الوحيد التي كانت مبرراً لقتل زوجها عدنان (شادي الصفدي) لها – من وجهة نظر صُناع "النار بالنار" –  الذي ظهر كضيف شرف في الحلقة الـ29 فقط. وأعتقد أن علامات الكذب والارتباك فضحت عمران منذ أن أخبرها بوفاة زوجها، مثلما أعتقد أن الجمهور عرف ذلك جيداً. وللتنويه قدم فهد واحداً من الأدوار المتميزة بإتقانه لشخصية المرابي.

هناك الكثير من الشخصيات التي لم يفهم إقحامها في المسلسل، كان منها على سبيل المثال شخصية ملك (مرح حسن)، الفتاة التي تمضي وقتها بمشاركة التحديات على منصة تيك توك، فالشخصية لم تقدم أي إضافة تذكر للمسلسل، ولا هدف منها إلا زيادة دقائق الحلقات، وحتى نهايتها لم تكن مفهومة أو مقنعة. ومع ذلك، كانت شخصيتا جميل وقمر من أكثر الشخصيات المرحة في المسلسل، وتعكس بطريقة أو بأخرى جزءاً من جيل اليسار المشبع بالهزائم، لكن ليس بأن يصل الأمر إلى بيع جميل لكلية من كليتيه، أو إرهاق المشاهد بمزيج من الصور لكتاب وقادة سياسيين يقدسهم اليسار. في مشاهد الصور الموزعة على الجدار أكثر ما لفتني وجود صورتين للروائي والشاعر سليم بركات، فالرجل الذي كتب له محمود درويش يوماً "ليس للكردي إلا الريح" ليس من القامات الروائية المحبوبة بين اليسار العربي، وهذه حقيقة لا يمكن تجاهلها أو إنكارها.

مثل "ترجمان الأشواق"، تضيع القصة الأصلية التي يريد عبد العزيز بالاشتراك مع صُناع "النار بالنار" روايتها، وبدلاً من ذلك وقع مرة أخرى في مطب الإطالة والحشو وعشوائية المشاهد المكررة لوصول العرض إلى الحلقة الـ30، ولربما كان هذا واحدا من الأسباب التي جعلتنا نشاهد الكثير من لقطات الدرون لـ"حي السرور" دون أي تفسير أو سبب لها. في مقارنة سريعة للقطات الدرون، استخدم المخرج محمد شاكر خضير في مسلسل "تحت الوصاية" ثلاثة أو أربعة لقطات درون وزعها على 15 حلقة، والمشاهد الوحيدة التي استخدمها في التصوير كانت لقطات لإحدى مقابر الإسكندرية التي أظهرت جمال عشوائية التصميم من السماء، بينما لم تقدم مشاهد الدرون في "النار بالنار" أي إضافة تذكر.

أخيراً، نجح "النار بالنار" بتقديم قصة مختلفة في الموسم الرمضاني الحالي بتناوله لواحدة من القضايا الرئيسية التي تشغل الشارع اللبناني والسوري معاً، والتي بنى عليها حملته الترويجية، لكنه ضاع في متاهات سردية غير متوازنة أدت إلى تقديم قصة لا فائدة منها، رغم أنه على ما يبدو أنه من الأعمال التي حظيت بميزانية إنتاجية جيدة، لكن القصة بمجملها ذهبت في متاهات مختلفة لا هدف منها إلا تنميط القضايا السياسية والفكرية والاجتماعية بعيداً عن عكسها كما هي على أرض الواقع، ولعلها هي السمة الرئيسية للأعمال الدرامية المشتركة التي ما تزال تبحث عن قصة ناجحة، قصة واحدة فقط تعيد لأعمال الدراما الاجتماعية مكانتها في زمن خدمات البث الرقمي العربية.