"السويداء" صفعة طالت وجوه الجميع

2023.09.28 | 06:48 دمشق

آخر تحديث: 28.09.2023 | 06:48 دمشق

"السويداء" صفعة طالت وجوه الجميع
+A
حجم الخط
-A

"الكرامة يا أهل السويداء.. الكرامة" تلك كانت آخر الكلمات التي نطق بها الشهيد خلدون زين الدين، الضابط الذي انشق عن جيش الأسد، وأسس مجموعة عسكرية صغير دعاها باسم سلطان باشا الأطرش، وقاتل جيش النظام حتى استشهد. زين الدين ابن السويداء التي شارك العديد من أبنائها في الحراك منذ البدايات. جميعنا نذكر اعتصام المحامين في المدينة نهاية شهر آذار 2011، ومظاهرات بلدة شهبا المبكرة. وليست قليلة الأسماء التي يعددها أبناء المدينة عن معتقلين منذ بدايات الثورة بعضهم قُتلوا تحت التعذيب.

لم تبدأ ثورة السويداء اليوم ولكنها بدأت عام 2011، كما بدأت في مدن السلمية ومصياف. لكن النظام أدار اللعبة ببراعة في تلك المناطق، عبر خلق ميليشيات من داخل المجتمع المحلي لتقمع أي صوت معارض، وما كانت السويداء لتستطيع معاودة حراكها اليوم، لولا أنها انتفضت أولاً على تلك الميليشيات قبل أكثر من عام، ونظفت المدينة من تلك العصابات المرتبطة بأجهزة الأمن. ساعد الإعلام العربي والدولي النظام في وأد حراك 2011 في تلك المناطق (مناطق الأقليات)، بعدم التركيز عليها، بل وتجاهل تحركاتها في أغلب الأحيان.

لم تغادر مظاهر التمرد المدينة طوال العقد الماضي. رفضت السويداء التحاق أبنائها بجيش الأسد لأداء الخدمة العسكرية تحت شعار "دم السوري على السوري حرام"، مع ما لهذا الأمر من أهمية معنوية وحتى قانونية، وابتلع الأسد الأمر على مضض، ولم يدخل في مواجهة مع المدينة. أصدرت المرجعيات الدينية الدرزية تحريماً دينياً على من يمارس التعفيش، حين كان أفراد جيش الأسد والميليشيات الموالية يسرقون محتويات بيوت السوريين في كافة المناطق التي ثارت عام 2011.

يعرف العالم أكثر منّا جميعاً كذبة حماية الأقليات، ومع ذلك تبدو الكذبة ذريعة مناسبة لتقاعس المجتمع الدولي. في السويداء بدا أن كل ما عمل عليه نظام الأسد بمساعدة من التنظيمات ذات التوجه الإسلامي، مع صمت عالمي، قد سقط

اليوم تبدو أيضاً إشاحة نظر الإعلام الدولي عما يجري في السويداء واضحة، لما تخلقه حالتها من حرج. فالحجة بأنها ثورة إسلاميين متطرفين سقطت، مع هذه الحشود التي خرجت تطالب برحيل الأسد، تتقدمها النساء في الصفوف الأولى. يعرف العالم أكثر منّا جميعاً كذبة حماية الأقليات، ومع ذلك تبدو الكذبة ذريعة مناسبة لتقاعس المجتمع الدولي. في السويداء بدا أن كل ما عمل عليه نظام الأسد بمساعدة من التنظيمات ذات التوجه الإسلامي، مع صمت عالمي، قد سقط.

كان لا بد لي من هذه المقدمة لأصل إلى ما أريد قوله. يتداول معظمنا اليوم الحديث عن الإحراج الذي سببته السويداء لنظام الأسد (حامي الأقليات)، كما يدّعي وكما يرغب البعض أن يصدّق. لكن حقيقة الأمر أن الإحراج لا يقتصر على نظام الأسد، بل يطول كل الدول التي تدعم بقاءه، ويصل إلى دول العالم التي رأت في فترات سابقة أنه يحارب (الإرهاب)، واستمرأت تلك السردية لتحاول التطبيع مع بقائه باعتباره أهون الشرور.

اليوم، وبينما يؤكد الكثيرون أن ما يجري في السويداء هو الوجه المشرق لثورة السوريين كما بدأت في معظم المناطق، فإن هناك من يلمح إلى أن البيئات السورية لم تستطع أن تنجز هذا الشكل الحضاري الذي تظهره السويداء الآن، خصوصاً لجهة الشعارات والمشاركة النسائية الفعالة. بالنسبة لي، أعتقد أن سوريا بمعظمها، كانت ستغدو كذلك لولا استخدام العنف المفرط من النظام منذ الأيام الأولى، طبعاً قبل أن يدخل السلاح إلى الشارع، وهو عامل حاسم أدى لانسحاب النساء، إضافة طبعاً للاعتقالات وما روي عن حالات الاغتصاب، التي ثبت فيما بعد أنها كانت روايات غير بعيدة عن الواقع.

جرى كل ذلك قبل أن تدخل الفصائل الإسلامية لتحتلّ أغلب المشهد، فتنقلب الشعارات الوطنية إلى إسلامية، ولتُخلق معها بيئة طاردة للنساء بطريقة ممنهجة وبمثابرة دائمة، ليبدو بعدها وكأن مجتمع الثورة ذكوري يحط من قدر المرأة، وهي صورة سلبية إنسانياً قبل أن تكون غير مقبولة عالمياً. الآن هناك من يتحدث بقصد المديح عن المشاركة النسائية في السويداء، ليقارنها مع الحالة المحافظة في مناطق سيطرة المعارضة الإسلامية في شمال غرب سوريا، ما يُفضي إلى أن مجتمع الأكثرية في سوريا هو محافظ (متخلف) وإسلامي متطرف. إن كان الأمر ظاهرياً يبدو صحيحاً، فإن في هذا تناسياً متعمداً لتطورات الحدث السوري منذ بداياته المشرقة والحضارية، وكيف أن التطرف الإسلامي تغلغل ليسيطر على المشهد، وكأن الأمر مخطط مسكوتٌ عنه، أو على الأقل مرضي عنه لجهة دول العالم التي نأت بنفسها عن الانخراط للدفاع عن الضحايا بمواجهة عنف نظام الإبادة.

اليوم النظام محرج، وسلطات الأمر الواقع في شمال غرب سوريا محرجة، والإسلاميون على اختلاف مواقعهم بأغلبيتهم محرجون، ومعهم العالم (الحر) أيضاً. فكما أسقطت السويداء ذريعة النظام عن حماية الأقليات بمواجهة (ثورة الإرهابيين)، فإنها في ذات الوقت، تُسقط عن دول العالم الفاعلة كثيراً من الذرائع التي تمنعها من اتخاذ موقف فعّال، حين كانت، دون إعلان واضح، تستند إلى رواية النظام، لتسويغ مواقفها المتواطئة.

لم تنجُ أية جهة من الإحراج. فحتى الائتلاف الذي يتجهز لمرحلة سياسية قادمة تأملها الدول (الضامنة). مرحلة تقوم على تسوية شكلية مع نظام الأسد، بدا في وضع لا يُحسد عليه مع إعادة السويداء رفع شعارات 2011

أما الإسلاميون فلهؤلاء موقف متفرد، فبعد أن تركوا للسوريين في مناطق سيطرتهم خلال الأيام الأولى أن يعبروا عن تضامنهم مع السويداء، لدرجة رفع الراية الدرزية وصور سلطان الأطرش في مظاهراتهم الأولى، فهم سرعان ما أعادوا حساباتهم، ويبدو أن هناك ما يشبه عصا المايسترو التي أشارت بمنع مظاهرات التعاطف والتضامن في الشمال. فلا ينبغي لهؤلاء الوقوف مع حالة وطنية سورية لا ترفع راياتهم الفئوية، والأدهى أن روادها يتحدثون عن دولة علمانية مع إحياء شعار "الدين لله والوطن للجميع".

إجمالاً وباعتقادي، لم تنجُ أية جهة من الإحراج. فحتى الائتلاف الذي يتجهز لمرحلة سياسية قادمة تأملها الدول (الضامنة). مرحلة تقوم على تسوية شكلية مع نظام الأسد، بدا في وضع لا يُحسد عليه مع إعادة السويداء رفع شعارات 2011، إضافة لتركيزها على القرارات الدولية، التي كان بدا للدول الضامنة وائتلافها، أن بالإمكان تجاوزها عبر ركاكة مفاوضات أستانا وغيرها. ولكم أن تتصوروا معي حال اللجنة الدستورية المزمنة، التي يعرف أعضاؤها تمام المعرفة أنهم يسايرون المجتمع الدولي الذي يدفع بالزمن تزجيةً للوقت، دون إرادةٍ لإحراز أي تقدم يُمكّن السوريين من الخروج من مأزقهم.

ولكن إلى أين يمكن أن تنتهي الأمور؟ لا جواب لدى أحد. رغم تأكيد المتظاهرين أنهم مستمرون حتى تحقيق مطالبهم، ومطالب السوريين. ومع الإقرار بأن لحركة السويداء أعداء أكثر مما لها من أصدقاء ومؤيدين، فليس هناك من أمل سوى ازدياد الحشود، مع المحافظة على سلامة الشعارات، لتفرض نفسها خبراً مهماً على الشاشات الدولية، التي ما زالت غائبة حتى اليوم. عندها ربما يضطر بعض الفاعلين إلى إعلان مواقف، واعتبار أن المدينة تمثل الحالة السورية، التي لا تجرؤ المناطق الأخرى على التعبير عنها، بسبب الأثمان الباهظة التي دفعتها خلال العقد الأخير.

أما بالنسبة لنظام الأسد، فقد عوّدتنا التجارب أن لديه على الدوام روايات يمكن تسويقها مهما بدت ركيكة وتفتقد إلى المصداقية، وهو قادر على صناعة تلك الرواية من خلال حوادث يفتعلها، وتنظيمات يخترعها. رغم أن الأمر اليوم يبدو أصعب، فالسوريون (المتجانسون)، حسب تعبير الأسد، هم من ينادون برحيله، لا (الإرهابيون) وحواضنهم، ولكن يبقى المؤسي أن المجتمع الدولي لا يحتاج إلى رواية مقنعة، إن كان ما يزال على موقفه في توفير الغطاء لبقاء الأسد. أما الأدهى من كل ذلك، فهو أن نظام الأسد مستعد  لأية مقايضات مع الجوار الإقليمي والمجتمع الدولي، ومستعد لبيع أي شيء تبقّى لدى السوريين من أجل احتفاظه بالسلطة، وإخماد حركة المدينة السورية التي استردَّت صوتها، وصوت السوريين.