"القافلة 43".. نريدهم أحياء

2024.04.04 | 05:55 دمشق

254444444444444444
+A
حجم الخط
-A

ليلة السادس والعشرين من أيلول/سبتمبر عام 2014، خلال مواجهات بين طلبة كليّة تدريب المعلمين في بلدة أيوتزينابا بولاية إيغوالا جنوبي المكسيك، مع الشرطة المحلية، اختفى 43 شاباً من بين الطلبة، تتراوح أعمارهم بين 18 و21 عاماً، ولم يظهروا بعدها إطلاقاً.

خلال تجمّع الطلبة للتظاهر خارج كليتهم، المعروفة كبؤرة احتجاج ضد الحكومة، هاجمتهم الشرطة المحلية مدعومة من عصابة خارجة عن القانون "ميليشيا محلية"، ما أدّى إلى مقتل ستة طلاب واحتجاز الباقين وسوقهم إلى جهة مجهولة. منذ تلك الليلة انقطعت أخبار الطلاب.

في المكسيك، حيث كان الإخفاء القسري حالة شائعة، كان للقصة أن تنتهي هنا، وتصبح كغيرها طيّ النسيان، لولا أن أهالي أولئك الطلبة كان لهم موقف حاسم بشأن اختفاء الأبناء. خلصت التحقيقات الحكومية أن مجموعة من الفاسدين في الشرطة البلدية المحلية سلمت الشبّان إلى ميليشيا المقاتلين المتّحدين (غييروس أونيدوس)، التي قامت بإحراق الطلبة بعد قتلهم، ثم جمعت بقاياهم في أكياس ورمتهم في نهر قريب.

خلال الضجة التي أحدثها الأهالي اضطرت الجهات الرسمية إلى تقديم رواية عن نتائج التحقيقات السريّة التي أجرتها، فخرجت إلى الجمهور بما سمّته يومها "الحقيقة التاريخية"! فأنتجت روايةً بنسخة رديئة عما حدث. ألقت اللوم فيها على تجار المخدرات والشرطة البلدية، وهو الأمر الذي شكك به محققون دوليون من أميركا اللاتينية فيما بعد، فعثروا على أدلة تربط بين الجيش وقوات الأمن الفيدرالية وحادثة الاختفاء، ولم يكن قد عُثر حينها على جثث أي من الطلاب.

من جهتهم رأى الأهالي أنه يجب مقاومة الرواية الرسمية لأنها تنطوي على الكثير من الأكاذيب والتلاعب بهدف التستر عما جرى حقيقةً، والتي يعرف هؤلاء الآباء والأمهات جزءاً منها، وهو ما لا يتماشى مطلقاً مع نتائج تحقيقاتٍ أجرتها حكومة لا ثقة لديهم بما تقول، والأهم، بالنسبة لهم، أنها حكومة ترفض تحمّل المسؤولية عن أفعالها. فقد عُرف عن ارتباط أعلى المستويات الحكومية بتجارة المخدرات في المكسيك، وللحكومة سجل حافل باضطهاد المعارضين والمنشقّين السياسيين.

خلال السنوات الماضية، في أكثر من مناسبة، كنت قرأت أخبار موجزة ومتفرقة عن جانب من قصة الاختفاء تلك، لكني لم أعرف عن الجانب غير الرسمي من القصة إلا مصادفة قبل فترة قصيرة، وهي حكاية القافلة 43 " Carvana 43". نظّم أهالي المفقودين قافلة تتجول لسرد قصة الأبناء المختفين، وهم بفعلهم هذا وفّروا لأنفسهم منتدى دوليا للحديث عن حكومة تمارس العنف المنهجي، مع الإفلات التام من العقاب.

جالت القافلة في العديد من بلدان أميركا اللاتينية، وانطلقوا شمالاً إلى الولايات المتحدة ليرووا قصتهم في 43 مدينة أميركية. نظّموا سلسلة من المظاهرات والمنتديات الاجتماعية والاحتجاجات والمؤتمرات الصحفية، لإيصال أصواتهم إلى جهات لم تعرف سوى القليل، وأحياناً لا شيء، عن حادثة الاختفاء. كان لفعلهم المتمثل في رواية قصتهم مرة بعد أخرى معنىً خاص. إنه معنى سياسي، بما هو فعل مقاومة سياسية ضد الرواية الرسمية لما حدث لأولئك الطلاب. رواية رسميّة ركيكة جعلت أولئك الطلاب طرفاً في صراع عصابات المخدرات، ما أثار غضب الأهالي، الذين كثيراً ما بكوا عندما تحدثوا عن هذا الجانب، معتبرين أن التحقيق غير شرعي، ولا يمكن لنتائجه أن تكون صحيحة، وبالتالي فإن الطلاب على قيد الحياة، في مكان ما، ما لم يتم العثور عليهم أمواتاً بالفعل.

حتى اليوم لم يتم العثور سوى على بضع قطع من العظام، أثبتت التحليلات أنها تعود لثلاثة من الطلاب، ومع ذلك لم يهدأ الموضوع، واضطر الرؤساء المتعاقبون على جعل كشف حقيقة ما جرى في رأس أولوياتهم. كل هذا بسبب الضجة الهائلة التي أحدثتها تحركات القافلة 43. في صيف عام 2022 أكّدت "لجنة الحقيقة والعدالة" أن جريمة الاختفاء كانت جريمة دولة، وهو ما كانت قد رددته سابقاً "منظمة العفو الدولية". تم سجن أربعة جنرالات من الجيش إضافة إلى رئيس بلدية المدينة، وتطالب الحكومة المكسيكية إسرائيل بتسليمها توماس زيرون الرئيس السابق لوكالة التحقيقات الجنائية المكسيكية، وكان قاد التحقيق فتلاعب بالأدلة وزرع أخرى، كما ثبت فيما بعد.

ولو أن الأمر خارج السياق قليلاً، لكن لا بد لي أن أدخل إلى قصة زيرون أكثر. فرَّ الرجل من المكسيك عام 2019 وطلب اللجوء في إسرائيل، حيث ما زال يقيم حتى اليوم، ويمتلك مطعماً راقياً في تل أبيب، في قضية أخرى زيرون متهم باختلاس 50 مليون دولار. استورد الرجل، خلال عمله الرسمي، برامج تجسس، منها برنامج بيغاسوس الشهير، الذي صممته مجموعة NSO الإسرائيلية، ولذا كانت له تلك الحظوة ليقيم هناك، ويكون بمنأى عن التحقيق. بينما يراه المكسيكيون مفتاح حلّ القضية والعثور على الصبية المختفين.

تعتبر الحكومة المكسيكية أنه يمتلك الحقائق المخفية في قضية الطلاب، ولذا وضعت اسمه على النشرة الحمراء لدى "الإنتربول"، لكن الحكومة الإسرائيلية ما زالت ترفض تسليمه. في أكثر من مناسبة تساءل مسؤولون إسرائيليون "لمَ نسلّمه للحكومة المكسيكية؟" الحكومة التي دعمت مراراً القرارات التي تنتقد إسرائيل في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، بما في ذلك قرارات التحقيق في مقتل المتظاهرين الفلسطينيين؟

في لفتةٍ درامية خيالية، خطر لي لو أن أهالي عشرات آلاف المخفيين في سجون نظام الأسد أرادوا السير بمثل تلك القافلة، فكم سيكون عدد الحافلات (ربما القطارات) التي ستقلّهم؟ وكم من الكيلومترات سيكون طول تلك القافلة؟ وماذا لو أراد أهالي المفقودين في السجون السورية من اللبنانيين والفلسطينيين المبادرة إلى الفعل ذاته؟ وإذا كان المكسيكيون قد أطلقوا على قافلتهم الرقم الذي يرمز إلى عدد المخفيين، فبكم من الخانات سيكون رقم قافلتنا السورية؟ للأسف، بل ومن العار، أن جميع أجسام (المعارضة) المتعاقبة فشلت بالدفع ليصبح ملف المخفيين والمعتقلين عموماً أولوية لدى الجهات الدولية.

ترفع القافلة 43 شعارها الأبرز "لقد تم أخذهم أحياء، نريد إعادتهم أحياء". في سياق بحث لجان التحقيق عن جثث الطلاب عثرت خلال سنوات، على عدّة مقابر جماعية لمختفين آخرين، لم يكن الطلاب من بينهم. في سوريا ارتفعت وتيرة تراجيديا البحث عن الأحياء والقتلى تحت التعذيب، بعد انتشار صور قيصر الشهيرة. تحلم الكثير من العائلات بعودة مفقوديها أحياء، وهو ما يحدث نادراً بين فترة وأخرى. لكن ، كما نعلم جميعاً، هناك خمسة عقود، تراكمت فيها أسماء مخفيين معظمهم لن يعودوا للأسف. وفي يومٍ ما لو بدأنا البحث عن المقابر الجماعية فلا أعلم إلى كم من السنوات سوف نحتاج. ختاماً يراودني السؤال: إذا كان زيرون، الصندوق الأسود لقضية اختفاء الطلاب، محمياً في تل أبيب، فمن يحمي "زيروننا" وصندوقنا الأشد سواداً؟ لن أجيب، فجميعكم تعلمون.