أوسكار 2024 وفنانو قصر الأسد

2024.03.14 | 06:54 دمشق

أوسكار 2024 وفنانو قصر الأسد
+A
حجم الخط
-A

بعد وقت قصير من بدء الاحتجاج الذي سبق افتتاح توزيع جوائز الأوسكار قبل أيام، وضم مئات المناهضين للحرب الإسرائيلية على غزّة الذين حضروا في وقت مبكّر إلى مكان الحفل، وقف رجل يرتدي بدلة زرقاء في الجانب الآخر من الشارع، حاملاً علم الولايات المتحدة والعلم الإسرائيلي. بعد مشاجرة كلامية بينه وبين المحتجين على وجوده، أمسك المتظاهرون بالعلم الإسرائيلي وألقوه في الشارع. ابتعد الرجل محاطاً بضباط السلامة، وهم من منظمي الاحتجاج أيضاً. أراد الرجل أن يعبّر عن رأيه بأنه مؤيد لإسرائيل في حربها، دون أن يهتم بعشرات الآلاف من الضحايا المدنيين، وهذا بالتأكيد موقف ينمّ عن الوضاعة الإنسانية في أوضح تجلّياتها.

لن نعدم الأمثلة عن أناس يؤيدون الحرب والقتل وحتى الإبادة الجماعية، فالتاريخ مليء بأمثال هؤلاء. ولكن هل من المقبول أن يكون من بين هؤلاء من هم من النخب الفكرية والفنية والثقافية؟ لا يهم إن كان الأمر مقبولاً أم لا. فالتاريخ يقدّم لنا أسماء كثيرة من بين هؤلاء، انحازت للمجرمين والطغاة. وكي لا أذهب بعيداً، فقد حفلت السجون السورية بفنانين تشكيليين وصحفيين وكتاب ومثقفين، بينما كان (زملاء) لهم يصنعون التماثيل للأسد الأب أو يلقون القصائد في مدحه، أو يكتبون الأعمدة الصحفية ليدلِّلو على عبقريته الاستثنائية. فمن يسبحون ضد تيار الظلم والقمع كانوا هم القلّة على مدى التاريخ.

كان لافتاً تعليق مارك روفالو، أحد النجوم الذين وصلوا متأخرين إلى الحفل، عندما خاطب الصحفيين "لقد تأخرنا، الاحتجاج من أجل فلسطين أغلق حفل الأوسكار الليلة، الإنسانية تفوز"

في حفل الأوسكار هذا العام كان الأمر على هذا النحو، فمن بين مئات الفنانين الذين حضروا، كانوا قلّة من وضعوا على صدورهم الزر الأحمر "لا للحرب" الذي يعبّر عن مطالبة الفنانين للولايات المتحدة أن تتدخل لوقف الحرب على المدنيين في غزّة. وكان اثنان أكثر جرأة فوضعا علم فلسطين على صدريهما. بينما كان لافتاً تعليق مارك روفالو، أحد النجوم الذين وصلوا متأخرين إلى الحفل، عندما خاطب الصحفيين "لقد تأخرنا، الاحتجاج من أجل فلسطين أغلق حفل الأوسكار الليلة، الإنسانية تفوز".

تأخُّر الافتتاح لعدة دقائق بسبب الاحتجاجات في الشارع، والتأخير أمر نادر الحدوث هنا. اضطر بعض النجوم إلى الترجل من سياراتهم والمتابعة سيراً، كما أرسل المنظمون عربات الغولف لنقل آخرين. أظهر المقطع الممنتج الذي افتتح به الحفل عبارة قالها بطل فيلم "أشياء مسكينة" على شكل سؤال: "هل تريد أن ترى كيف يبدو العالم حقاً؟". لكن على خشبة المسرح لم تشر سوى كلمات نادرة إلى حقيقة عالمنا ولا للأحداث العالمية الساخنة، وأهمها الحرب على غزّة والحرب على أوكرانيا التي تتصدر عناوين الصحف. لكن البعض فعل ذلك، مما أضاف للأمسية بعضاً من أهم لحظاتها.

بالتأكيد كان في أذهان معظم المشاركين بعض من تلك الأحداث. ومع ذلك، فإن المخرج البريطاني اليهودي جوناثان غلايزر هو الوحيد الذي تناول صراحة إراقة الدماء في غزة. هيمنت حرب غزّة الإبادية والمدمرة على عناوين الأخبار العالمية خلال الأشهر الخمسة الماضية. لكن بالطبع دون تطرق هذا الإعلام لعمق الفعل الإجرامي ومسبباته وفاعليه. فمن الأفضل للأغلبية تجنب الخوض في هذا علناً. خطاب غلايزر كان بمثابة لحظة من الشجاعة الأخلاقية المتشابكة بشكل لا ينفصم مع رسالة فيلمه The Zone of Interest "منطقة الاهتمام" الفائز بجائزة أفضل فيلم أجنبي، وتناول فيه جانباً من الهولوكوست النازي.

خاض غلايزر مخاطرة حقيقية من خلال التحدث عن معاناة الفلسطينيين على أكبر مسرح في هوليوود. مع معرفته أنه في الشهور الأخيرة تم طرد عاملين وممثلين في هوليوود، لمجرد تعبيرهم عن آراء مؤيدة للفلسطينيين على وسائل التواصل الاجتماعي. فإشارته إلى أن هناك احتلالاً لأرض فلسطينية سبق اندلاع العنف الحالي، كان يتناغم مع فيلمه الذي أراد من خلاله القول إن فظائع الماضي تمتد إلى الحاضر لأننا لم نتعلم من دروس المحرقة.

لطالما رأينا فنانين يتحدثون عن أفكارهم على منصات حفل توزيع الجوائز، رغم النصائح الدائمة من بعض النقاد بإبعاد السياسة عما يفترض أن تكون ليلة ممتعة. بينما يرى البعض أنه حتى فيلم "باربي" هو سياسة في المحصلة. فكيف إذا كانت الأفلام المرشحة تدخل في صميم السياسة التي استحضرتها أفلام أوبنهايمر، و20 يوماً في ماريوبول، ومنطقة الاهتمام. لذا كان مدعاة للفخر لكثيرين أن يروا مخرجاً فائزاً تتفوق إنسانيته على محرمات هوليوود. للعلم خطابه قوبل بتصفيق خفيف نسبياً من الحضور الذين كانوا حذرين من وضع أنفسهم بحزم على جانب واضح في قضية استقطابية.

دحضَ الرجل اختطاف الاحتلال الإسرائيلي لليهود وللمحرقة والحرب باسمهم، ما أدى إلى ردود فعل بالغة الشراسة على وسائل التواصل. اتهمه البعض أنه ينكر يهوديته والمحرقة، وبدت الكثير من الانتقادات تحرِّف أقوال الرجل. بينما كان كل ما قاله أن "الاحتلال أدى إلى مصرع العديد من الأبرياء. سواء ضحايا 7 أكتوبر في إسرائيل، أو الهجوم المستمر على غزة. كل هؤلاء كانوا ضحايا التجرّد من الإنسانية". ثم ليتساءل في الختام "كيف يمكننا أن نقاوم؟". والحقيقة أن كلامه الذي بدا شجاعاً في هوليوود لا يخرج عن سياق ما يدلي به آلاف اليهود في حركة "ليس باسمي".

ربما تتساءلون ما الذي أخذني للكتابة عن هوليوود والأوسكار وهو ما لم أفعله من قبل؟ إنها صور الفنانين السوريين وهم يتضاحكون مع القاتل، والتي خرجت تزامناً مع حفل جوائز الأوسكار. فنحن غالباً ما نفترض أن أصحاب المواهب والخبرات الحقيقية يفرضون وجودهم في حقول عملهم من خلال مؤهلاتهم، ويبقى لعديمي المواهب والمؤهلات والخبرات انتهاج الوسائل الدنيئة لو أرادوا الوصول إلى مواقع ليست لهم، فنجد منهم المتزلف والمخبر، والوضيع على جميع المستويات، مما يكسبهم آليّات سيتقنونها خلال كامل مفاصل حياتهم، لاحتلال مناصب لا يستحقونها.

ما الذي يدفع فنانين موهوبين إلى تلك المحرقة التي ستأكل من رصيدهم الأخلاقي على الأقل؟ وهنا أتحدث عن فنانين سوريين بدوا وكأنهم لبّوا الاستدعاء وحضروا إلى قصر بشار الأسد، والتقطوا الصور معه، وهم سعداء

سيكون مستغرباً لو أن أحداً منكم لم يصادف أمثال هؤلاء الذين يتقربون من إدارة أي مؤسسة بهدف الحصول على ميزة ما. فهذا يحدث في معظم أماكن العمل العادية. لكن السؤال ما الذي يدفع فنانين موهوبين إلى تلك المحرقة التي ستأكل من رصيدهم الأخلاقي على الأقل؟ وهنا أتحدث عن فنانين سوريين بدوا وكأنهم لبّوا الاستدعاء وحضروا إلى قصر بشار الأسد، والتقطوا الصور معه، وهم سعداء.

جميعنا يعرف فنانين تشكيليين وكتاباً وشعراء ما زالوا في سوريا، وهم مضطرون للاكتفاء بتلميحات تشي بموقفهم الأخلاقي النبيل. بعضهم يلجأ للصمت وعدم إعلان موقف صريح من القاتل، حفاظاً على حياته التي لن يتردد نظام الإبادة في انتزاعها، وهو فعلَ ذلك مع عشرات آلاف السوريين، ومع العديد من الفنانين والكتاب الذين عرفنا بموتهم تحت التعذيب أو ما زال مصيرهم مجهولاً بالنسبة لنا. رغم ذلك، ما زال هؤلاء، ممن في فمهم ماء، محل احترام وتقدير السوريين، فليس المطلوب من الإنسان أن يكون انتحارياً.

لكن التواجد في حضرة مجرم ومهندس الإبادة ليس فعلاً يستحق الغفران. فاختيار الضفة الأخلاقية يتبدّى من خلال نبل الموقف أو خسّته. وأنا هنا، ترفّعاً، لن أسهب في الحديث عما فعله هؤلاء بينما زملاء لهم، وربما أصدقاء ما زالوا مختفين في سجون مضيفهم المجرم. مع ذلك، ومع معرفتي بأن معظمهم خرجوا سعداء للشرف (أو انعدامه) الذي نالوه، خطر لي سؤال يمكن أن يُطرح على واحد منهم (على الأكثر): كيف استطعت النوم في ليلتك تلك، بعد هذا اللقاء؟