السوريون "السّمان" وقد جف ماء وجههم

2019.10.16 | 17:47 دمشق

2018-05-22t152348z_2084169324_rc1e06ff2400_rtrmadp_3_mideast-crisis-syria.jpg
+A
حجم الخط
-A

إذا قُيّض لسوري أن يعود إلى بلاده بعد انقطاع تسع سنوات ليس أكثر، هي عمر الأزمة التي دفعت بأكثر من ربع السوريين إلى النزوح خارج بلادهم ليصبحوا لاجئين في الجوار وفي أصقاع الأرض، عدا من نزحوا إلى مدن أخرى في بلادهم، فما الذي سيعتريه، ليس فقط من الدهشة الأولى، بل بعد الانزلاق سريعًا إلى متاهة الجنون؟ بعد أن يفقد القدرة على معرفة نفسه من كثرة ما سيفاجئه الواقع بالصور الصادمة لمخيلته ووعيه وذائقته ومنظومة قيمه التي ظن أنه يحملها وقد كانت الناظم المشترك لحياته وضميره مع الباقين ممن كانوا في يوم ما إخوة له أو أصدقاء أو معارف أو شركاء في الوطن، هؤلاء جميعًا الذين يشكلون ما يطلق عليه "الشعب"؟

لن أتحدث عن الدمار الذي طال البيوت والأحياء والقرى والمدن، حيث لم يعد هناك جغرافيا يمكن أن تمنح العائد مخطط اتجاهات يسلكها ليستدل إلى بيته أو بيت ذويه أو جيرانه، فالدمار مقيم يسوده صمت جبار يحكي قصة حرب مرت من هنا وكانت الأشرس في ذاكرة العالم وفي التاريخ الحديث ربما، حرب لم تنتهِ بعد، ولم يظهر خيط دخان يشير إلى أن نهاية وشيكة تتشكل، وأن هناك حلاً سوف يتلوه الكبار من على منابرهم، يقررون فيه أن الحرب ستصمت، وأن الخطوة الأولى في تقرير مصير هذا الشعب قد اتخذوها وسوف يدفعونه إلى السير في الاتجاه الذي رسموه له، شعب كثر ساسته وسائسوه وقادته وقوادوه، حتى صار مضرب المثل في الهزائم والتآمر والظلم والاقتتال والقتل والنزوح واللجوء والمساومة والارتهان وكل شيء، إلا أن يكون صاحب تجربة تشي بأن حياة تنتظره وأنه قادر على إنتاجها.

هذه الحياة التي تحولت إلى مقبرة متحركة لن يجد فيها العائد، بعد انقطاع، أي ظل لشجرة تحمل غير ثمار العفن والفساد والسموم

هذه الحياة التي تحولت إلى مقبرة متحركة لن يجد فيها العائد، بعد انقطاع، أي ظل لشجرة تحمل غير ثمار العفن والفساد والسموم، هذه هي الحقيقة، نباتات وأشجار عملاقة نمت وارتفعت وتسلقت كل جدران الحياة المتبقية فوق جثث من حصدتهم المحرقة السورية، نباتات رمّية تعتاش على الجثث ورطوبة المقابر وتبني مجدها بخيلاء مرتفعة فاردة أغصانها لتمنع النور والشمس عمن بقوا يصارعون الموت، حتى الهواء والضياء احتكرته تلك الرمّيات الخطيرة التي سوف تفاجئ العائد المقهور المسكون بحنين كان يقهره في غربته ويجرح أيامه ويحجب  أفق المستقبل عنه. إنه ما يسمى "مرض الوطن" أو مرض الحنين. لكن التجربة ستكون أقسى وأوحش، تجربة العودة التي ستصدمه بمن بقوا فيما لو تعرّف إلى بعضهم، أولئك الذين رصف تاريخه معهم، بل رصفوا تاريخًا مشتركًا ليدركوا مع الزمن مفهوم الوطن، فإذا بكل شيء يستحيل إلى حقائق جارحة سوف تغرز سكينها في القلب مباشرة. يا لخيبته مما يرى.

ليس دمار الحجر هو ما سوف يدمي قلبه، بل دمار المُثل، دمار الرمز، دمار الأيقونات التي نحتتها حياة مشتركة فيها ما فيها من المعاناة والأحلام التي ربما كانت أحلامًا ساذجة أو قاصرة أو طفولية، لكنها أحلام ولدت وكبرت مع الألم فكانت تخفف وجع الروح وتمد صاحبها بالإيمان بأن غدًا سيكون أفضل، وأن عليه أن يسعى إلى هذا الغد الذي كان يخاتل ويهرب.

موجع ومفجع أن يعود السوري ويقفز فوق فجوة زمنية مع حمولته التي لم ينزلها عن كاهله في سنوات الغربة واللجوء، من حنين وروائح ومشاهد الماضي بكل اعتواره وبكل قسوته وبكل ما كان يحمل من أسباب التمرد والعصيان والانقلاب عليه كواقع خانق يجرح كرامته الإنسانية. لكن الريح تجري بما لا تشتهي السفن، وها هي تجري بما لم تشته سفن الروح اللاهثة خلف الماضي بكل تحققه، تجري لترى من بقوا وكان يمكن أن يحلف الأيمان باسمهم كأيقونة للنزاهة والصدق والأمانة والضمير اليقظ، وقد صاروا أشخاصًا لا يحملون من إنسان الماضي غير صورة اكتست ملامح أخرى، ملامح سلخت صورة الملاك بخفة ومهارة لترسم ملامح شيطان آبق يعرف كيف يستثمر بأرواح البشر ولقمتهم وأمنهم وصحتهم ومستقبل أطفالهم، إنهم الأثرياء الجدد، أولئك الذين كانوا مثله بائسين ينتظرون نهاية الشهر ليتلقفوا راتبهم ويوزعوه على أيام الشهر الثلاثين، كانوا يقولون: الحمد لله، وهم غارقون بالخيبة محاصرون بضيق العيش. وفجأة صاروا أصحاب شركات ومشاريع، وصاروا مستثمرين، وصارت لهم حياة تليق بموقعهم الجديد، حياة لم يبخل بها اقتصاد الحرب، فحول البلاد إلى مقاهٍ وبارات ومراقص وأندية ليلية ومطاعم وفنادق، بينما المدن تئن ببنيتها التحتية المتهالكة وخدماتها التي يدفع لقاءها المواطن رسومًا تثقل كاهله بينما لا ترقى إلى مستوى درب ترابي مرتجل في قرية صغيرة.

من يلوم سورياً رأى أحلامه تقبر معه أو قبله، أحلامه وقد تاجر بها من كانوا ضالعين بالفساد غارقين فيه حتى أنوفهم ثم بقدرة قادر تحولوا إلى ثوريين وقادة سياسيين ومعارضين

من يلوم سورياً رأى أحلامه تقبر معه أو قبله، أحلامه وقد تاجر بها من كانوا ضالعين بالفساد غارقين فيه حتى أنوفهم ثم بقدرة قادر تحولوا إلى ثوريين وقادة سياسيين ومعارضين، فاستثمروا في بازار السياسة بأحلام السوريين وقضيتهم، ورأى في المقلب الآخر من كانوا جزءًا من تاريخه، لولاهم لما كان لديه تاريخ وذاكرة وقد نهبوا ما تبقى وصاروا زعماء الاقتصاد والمال واللقمة السورية الحالية، يتاجرون بالوطنية ويعيّرون من نزحوا برغم كل مآسيهم بأنهم خانوا الوطن. إن عدد لصوص حقوق الناس وتجار أزماتهم وأرواحهم وأمنهم وصحتهم ومستقبل أبنائهم يفوق الإحصاء، كثيرون رموا أقنعتهم بمنتهى الوقاحة والفجور وأظهروا وجوههم الحقيقية غير عابئين بانكشاف "عورتهم" أو عارهم القبيح، لا يخجلون من إشهار حقيقتهم، حقيقة لصوصيتهم وسرقاتهم السابقة التي خبؤوها إلى يوم لا يُسأل المرء من أين وكيف ومتى راكمت كل هذا الفائض وكنت فيما مضى تنتظر أول الشهر لتبتهج بالراتب؟ الوقت وقت حرب، وللحرب قواعدها وأولوياتها حتى لو كان الثمن دمار بنيان المجتمع ومؤسسات الدولة، وخراب الإنسان ونخره أخلاقيًا وقيميًا حتى النخاع.

الصدمة القاتلة هي في الخيبة الكبرى، أن يعود السوري ويمد يده يصافح رفاق الطفولة أو زملاء العمل أو الجيران أو الأصدقاء أو حتى الأخوة ممن بقوا، ويفاجئه حجم الفساد المتفشي في ضميرهم ودمهم وأيديهم، وإذ يبدي ذهوله لا يحق له أن يسأل بحق الصداقة أو الأخوة أو الجيرة: من أين وكيف لك هذا يا هذا؟ يا لهذه الحرب التي فاجأتنا بحجم جهلنا ببعضنا بعضًا، بحجم الكذب والنفاق والغدر والفساد الذي كنا نعيش فيه غافلين.