الرجل الذي تسبب في استعصاء سجن صيدنايا

2023.07.10 | 06:37 دمشق

الرجل الذي تسبب في استعصاء سجن صيدنايا
+A
حجم الخط
-A

لم يكن يوم الأربعاء الفائت تاريخاً عادياً في حياة العقيد علي خير بك. ففي صباح مثله، في الخامس من تموز منذ خمسة عشر عاماً، ثارت المحنة التي قضت على مستقبله وأسلمته إلى تقاعد مبكر طويل وممل.

قبل ذلك بعامين بدا وكأن الدنيا منحته أفضل ما لديها. فقد وُلد في عائلة وجاهة متوارثة في اللقبة بريف مصياف، جدد نفوذها في عهد حافظ الأسد أمينه على العاصمة، رئيس الفرع الداخلي الشهير محمد ناصيف خير بك، وكان منها ضباط آخرون أقل شهرة ولكن في مواقع ليست قليلة الأهمية على الإطلاق. وكان علي نفسه، في الأربعين من عمره في عام 2006، قد تسلم إدارة السجن العسكري الأول في البلاد الواقع في صيدنايا بريف دمشق.

 

(العقيد علي خير بك)
(العقيد علي خير بك)

 

منذ وصوله إلى منصبه هذا أراد أبو محمد أن يعطي انطباعاً بالشدة والانضباط، تمييزاً عن عهد سلفه الذي اتسم بمزيج من الفوضى والفساد. وليمسك السجن بقبضة صارمة قرّب من ينقلون الأخبار من صف الضباط، وهم الهيكل الفعلي للسجن، ومن المجندين. أما داخل المهاجع فقد عمد إلى تعيين رؤسائه من متهمي قضايا التعامل (التجسس) أو تهم معيبة أخرى، ليلعبوا دور «العواينية» على بقية السجناء الذين شهدت أعداد الجهاديين منهم زيادة كبيرة خلال عامي 2006 و2007. فلم تأت السنة اللاحقة، 2008، إلا والوضع على حافة الانفجار دون أن ينتبه المدير المطمئن إلى سطوة الاستقرار الظاهر المفروض بالقوة.

كان السجناء الجدد، المحوّلون من الفروع الأمنية بعد انتهاء التحقيق الوحشي، يتعرضون لتعذيب مهين وعبثي في اليوم الأول لوصولهم. ثم يستمعون إلى «الكلمة التوجيهية» لمساعد لا يتورع أن يقول: «أنا هنا أحيي وأميت، وأنا هنا على كل شيء قدير». ثم يودعون، مجموعات، في منفردات مريعة. قبل أن يحق لهم الانتقال إلى «جناح العزل» الذي هو أفضل بقليل، ويقضون فيه مدة طويلة بانتظار المحاكمة، وفي أثنائها، دون زيارات ولا صلة مع العالم، وفي ظروف معاشية سيئة.

في مجمل السجن كانت الكهرباء تقطع لساعات طويلة، والماء لأيام، وتنقص كمية الطعام وتنحدر نوعيته. لكن أكثر ما كان يستفز الجهاديين هو الكفر وإهانة المقدسات وشتم الأعراض، ممن كان يمارسه من السجانين ومن رؤساء المهاجع المخبرين الذين كانوا يستفزون السجناء ويهددون بوضوح أنهم يستطيعون «تلبيس» أي متهم إسلامي قضية جديدة تضاف إلى تهمته الأصلية وتستوجب إعادته إلى الفرع الذي اعتقله لتبدأ دورة جديدة من التعذيب و«التحقيق».

انفجر الوضع أول مرة ليوم واحد في 27 آذار 2008، وهو ما يصفه سجناء صيدنايا بالاستعصاء الأول. فجاءت لجنة من شعبة المخابرات العسكرية، المسؤولة عن السجن أمنياً، ومن الشرطة العسكرية، المسؤولة عنه إدارياً، التقت مطولاً بلجنة اختارها السجناء لتحمل مطالبهم التي تمت الموافقة عليها. وتركزت في منع الضرب والكفر والشتم، والسماح بصلاة الجماعة، وفتح باب الزيارات للجميع، والإسراع في المحاكمات وتخفيف الأحكام، وفتح أبواب المهاجع والأجنحة وخروج السجناء إلى «التنفس»، واجتماع أبناء الدعوى الواحدة والأقارب في أجنحة أو مهاجع تخصهم، وتحسين وضع الغذاء والطبابة والكهرباء والماء.

يروي أعضاء لجنة المعتقلين أن العقيد تعرض للتوبيخ أمامهم من قيادته التي حمّلته مسؤولية الضغط فالانفجار، ومن هنا بدأ توجس السجناء مما يمكن أن يفعله للانتقام. والحق أن خير بك لم يكتفِ بتنفيذ ما اتُّفق عليه، بل ترك الباب مفتوحاً على الغارب لما سماه «الفوضى الخلاقة» التي أفعمت نفوس سجناء جهاديين، كان معظمهم من الشبان العشرينيين، بالشعور بالقوة التي دفعتهم إلى التحكم في سجنهم دون سقف.

أدت انسيابية التنقل إلى تكتل الجماعات وسادت بينها المناظرات. انتشرت اللحى الطويلة والشعور المرسلة والملابس الأفغانية والعصبات وارتفع الأذان. وأبلغ العقيد لجنة السجناء أنه سيصوّر كل هذا ويرسله للقيادة. حاولت اللجنة تخفيف غلواء الشباب الذين اتهموها بالحلول محل الإدارة في ضبطهم. أسعد هذا الخبر علي خير بك الذي ألح على رؤسائه بالتنبيه إلى خطر هؤلاء الذين «لا يستمعون حتى لتوجيهات مشايخهم»، محذراً من استعصاء جديد أو حتى محاولة هروب، مذكّراً بحسنات «البوط العسكري». ثم اتفق مع قائد الشرطة العسكرية حينذاك، اللواء نعمان الخطيب، على خطة تأديبية قاسية للسجناء، عملا حتى تمت الموافقة عليها.

في صباح 5 تموز دخلت إلى السجن أعداد كبيرة، من طاقمه وفرع الشرطة العسكرية ومدرسة الشرطة وقوات المهام الخاصة، بحجة التفتيش عن الجوالات والأسلحة البيضاء. غير أن الاشتباك سرعان ما اندلع وبادر السجناء إلى خلع أبواب المهاجع وهدم جدرانها والهجوم بأعمدة الأسرة المعدنية على العساكر الذين كان أكثرهم يحملون الهراوات ومعظمهم من غير المدربين والملتحقين حديثاً بالخدمة العسكرية الإلزامية. بالكاد استطاع علي خير بك النجاة من أيدي السجناء المتمردين الذين احتجزوا الرائد منذر سلامي، ضابط أمن السجن، وضباطاً آخرين، ونحو أربعين من صف الضباط، ونحو 1150 عنصراً من المجندين.

كانت تلك مفاجأة صاعقة لم يصل خبرها إلى القيادة فقط، بل إلى منظمات حقوقية ووسائل إعلام عربية وعالمية كبرى بعدما استولى السجناء على بعض أجهزة الهاتف الخليوي من الضباط المحتجزين، ومن غرفة الأمانات التي سيطروا عليها كما على مكتب المدير.

صعد السجناء المتحرّرون للتو إلى السطح وصاروا يحرقون ما استطاعوا لإثارة الدخان ولفت الأنظار، فيما أخذ بعض الأهالي يتجمعون على الطرف الآخر البعيد، فسارعت السلطة إلى تشكيل لجنة أمنية عسكرية جديدة هدفت إلى لملمة القصة ومعالجة الاستعصاء الذي سيستمر حتى نهاية العام.

وبينما كانت تفاوض لجنة مقابلة من السجناء فتحت تحقيقاً مسلكياً حصر المسؤولية في مدير السجن وقائد الشرطة العسكرية فأحالتهما إلى التقاعد. وكُلّف العميد طلعت محفوض، وهو مدير سابق لسجن تدمر، بإدارة سجن صيدنايا.

في لقاءاته الأولى مع السجناء حين كانوا مسيطرين كان محفوض يشتم سلفه بقسوة، محمّلاً إياه مسؤولية إساءة معاملتهم والدماء التي سفكت في أيام الاستعصاء الأولى. أما حين خمد التمرد واستسلم الجميع فكان يلقي فيهم خطباً طويلة تشنّع على «الرخاء» الذي كانوا يعيشونه أيام خير بك مما دفعهم إلى الاستعصاء. مشيراً إلى أنه يتحدر من بيئة فقيرة خشنة لم ترضع «حليب البيوك»، مفتتحاً دورة جديدة من القهر في مهاجع مصفحة بالمعدن وبأدوات طعام بلاستيكية.

طلعت محمد محفوض