الدين والعلم.. تلك الثنائية الواهمة

2020.01.20 | 23:01 دمشق

allm_waldyn.jpg
+A
حجم الخط
-A

كشف رحيل الباحث محمد شحرور عن انتشارٍ واسع لذهنية التكفير الغوغائي الحقود، وعند بعضٍ ممّنْ كنا نحسَبُهم عقلاء أو معتدلين أو لاتكفيريّين على الأقل. كما كشف بالنسبة إليّ؛ عن عدم جدوى التوفيق بين الدين والعلم، أو النقل والعقل، تلك المتاهةُ التي ضاع فيها الفكرُ العربي منذ ثمانية قرون.

لن أناقش في هذا المقال طروحاتِ الراحل شحرور، لعدم اطّلاعي على معظمها، ولعدم موافقتي على ما أعرفه منها. ويعودُ عدم اتّفاقي مع الخطّ الذي سار فيه شحرور في حدود معرفتي له، إلى قناعتي بعدم جدوى التوفيق بين العقل والنقل، وأنّ الاشتغالَ الفكري من أجل تحقيق هذا التوفيق؛ يعني الدخول في نفقٍ لهُ أوّلٌ وما لهُ آخر، نفقٍ دخله الفكرُ العربي منذ القرن الثاني عشر للميلاد ولـمّا يخرجْ منه، ولن يخرجَ منه، لأنه نفقٌ لا نهاية له. بينما كان الأجدى والأصلحَ للفكر العربيّ وللبشر بالعموم؛ أنْ نفصلَ مجالَ الدين عن مجال العلم، وألّا نخلطَ بينهما، درءاً للدخول في متاهة لا نهاية لها، ولا جدوى تُنتَظَر منها.

لا بدّ للذهن أن يذهب في هذا السياق إلى ابن رشد وكتابه "فصل المقال"، وأن يستحضر مقولته الجميلة: "الله لا يمكن أن يعطينا عقولاً، ويعطينا شرائع مخالفة لها". لكنّ جمال الكلام لا يعني دقّته، فعقولُ البشر ليست واحدة، بل هي عقولٌ مختلفة في فطرتها وتعلُّمها وأهوائها وميُولها... فليس عقلُ معاوية وعقلُ عليّ عقلاً واحداً، وحتى الأخَوَان التوءَمان لا يتطابقان من حيث العقل. كما أن الشرائع ليست إلهيّة بالكامل، فضِمن الشريعة ذاتها ثمة علومٌ للتفسير والحديث والقياس والاجتهاد والفقه والإفتاء... وهذه كلُّها من صنع البشر، وهي لم تكن محلَّ إجماعٍ أو اتفاقٍ شاملٍ أو نسبيّ في عصر من العصور. لكنّ هذا النقد لا يقلّلُ من عظمة ابن رشد وأهمية طرحه بالقياس إلى زمنه، وملخّصُ رأيه هو إنه عند تعارُض الشريعة مع الحكمة (أو النقل مع العقل)؛ نقوم بتصديق ظاهر النصّ أولاً، ثم نُعيد تأويلَ باطنِهِ تأويلاً يتوافق مع الحقيقة العقلية. والحقيقة عند ابن رشد حقيقةٌ واحدة، دينية وعلمية في آنٍ معاً، لكنّ الاختلاف يكون في طرائق الوصول إلى تلك الحقيقة الواحدة.

ما لم يقلْه ابن تيمية صراحةً؛ هو كيف نستدلّ على "صريح المعقول" أو "صحيح المنقول"؟ وما هي الأداة إلى ذلك؟ وما هوَ الحكَمُ النهائيّ؟!

أما طرح ابن تيمية في هذه المسألة، فكان أكثرَ رصانة وإحكاماً من طرح ابن رشد التوفيقي الدبلوماسي. وملخّصُ رأيه هو أنّ العقل والنقل لا يمكن أن يتعارضَا، وإذا ما تبدّى للذهن أنهما متعارضان، فلا بدّ أن تكون هناك مشكلة ما في هذا العقل (صريح المعقول) أو ذاك النقل (صحيح المنقول)، ولا بدّ أن يكون أحدُ الدليلين -العقليّ والنقليّ- قطعياً والثاني ظنّياً، وبالتالي نرجّحُ الدليلَ القطعي على الدليل الظنّي. لكنَّ ما لم يقلْه ابن تيمية صراحةً؛ هو كيف نستدلّ على "صريح المعقول" أو "صحيح المنقول"؟ وما هي الأداة إلى ذلك؟ وما هوَ الحكَمُ النهائيّ؟!

وفي كل الأحوال، فإنّ ما كان حلّاً ألمعيّاً في زمن ابن رشد أو ابن تيمية أو القديس أوغسطين أو توما الإكويني؛ لن يكون حلّاً ألمعياً على مرّ العصور، بل قد يغدو -مع مرور الزمن- عائقاً ومعضلةً تواجه الفكر والفرد في حياته اليوميّة، وقد يفتح الباب إلى متاهةٍ يدورُ فيها الفكر حول ذاته، ويخرجُ بسببها من عصره وعالمه.

ولكلّ ما ذُكر أعلاه، ودون إغفال الأسباب المادية المتمثّلة في أنظمة الاستبداد وتخلُّف أنماط الإنتاج والصراعات الدولية والإقليميّة في المنطقة؛ فما زالت معظمُ الجدالات الفكرية في ثقافتنا العربية تنتمي إلى القرون الوسطى، ويكادُ المرءُ لا يجدُ مثيلاً لها في الثقافة الأوروبية إلّا أيامَ "الفلاسفة المدرسيّين"، أي في الثلث الأخير من العصر الوسيط. وكمثالٍ على تلك الجدالات؛ محاولة شحرور إثبات صحّة نظرية التطوُّر عن طريق تفسير النصوص القرآنيّة، ويقابلُها إعلانُ شيخ الأزهر أنّ نظرية التطوّر هي مجرّدُ تخميناتٍ ليس لها أساسٌ علمي، فكِلا هاتين الأطروحتين تنتمي فكرياً إلى العصور الوسطى، ولا ينبغي أنْ تُقال في القرن الواحد والعشرين.

الإيمانُ يتأسّسُ على الكتب المقدسة ويقوم على التسليم بالوحي، بينما تقومُ العلوم على الحُجَج المنطقية والبراهين التجريبية

وما الحلّ؟ الحلُّ هو ما قالتْهُ حركةُ "الرُّشْدية الأوروبية" ولم يقلْه ابنُ رشد بالمناسبة، وهو ما استمرَّ استدعاؤه واللجوءُ إليه في عصر الفلسفة الحديثة وعصر الأنوار؛ ألَا وهو القولُ بوجود حقيقتين دينيّة وعلمية، وذلك لأنّ مجالَ الإيمان مختلفٌ عن مجال العلوم، فالإيمانُ يتأسّسُ على الكتب المقدسة ويقوم على التسليم بالوحي، بينما تقومُ العلوم على الحُجَج المنطقية والبراهين التجريبية. وإذا ما كانت الحقائقُ الدينية قد اكتملتْ مع انتهاء الوحي واكتمال الرسالة؛ فإن الحقائق العلمية تتغيّر وتتجدّد معَ كلّ يوم جديد. الحلُّ هو باسكال، الفيلسوف والفيزيائي والرياضيّ الذي رأى أنّ الإيمان يكونُ بالقلب وأداتُه الشُّـعُور، أما العلمُ فيكون بالعقل وأداتُه المناهج العلمية، فلا يُعقل أنْ يكون هناك تعارضٌ بين شيئين لا اشتراكَ بينهما من حيث الطبيعة. ولنزيدَ القارئ من الشِعر بيتاً؛ فالحقيقة اليوم ليست حقيقتين دينية وعلمية فحسب، بل حقائق عدّة، فهنالك حقيقة نفسيّة وحقيقة شُعُوريّة وحقيقة اجتماعيّة وحقيقة دينية وحقيقة تاريخية... إلخ.

ولهذا؛ فإنّ وضعَ الدين في مواجهة العلم، أو العلمَ في مواجهة الدين، يشكّلُ ثنائيّة قُطبيّة واهمة، تُضيّع كلاً من الدين والعلم وتسيءُ إليهما. وثمة طرفان في العالم العربي يُعزّزان هذا الاستقطاب الحادَّ الذي لن يفضي إلى نتائج مفيدة؛ طرفٌ أول يريد أن يضع الدين في محلّ العلم، ليصيرَ الدينُ هو العلوم جميعها، وهو المرجعية العلمية الوحيدة الـمُعتمَدَة في كلّ شيء، بدءاً من دراسة الجراثيم وليس انتهاءً بالفيزياء الفلكيّة. وطرفٌ ثانٍ يريد أن يضع العلمَ في محلّ الدين، فيتحدث عن الدين وكأنه مجموعة من الخرافات التي يجب على الناس التخلّي عنها، أو كأنّ الدينَ معرفةٌ بشرية بدائيّة ينبغي تركُها في حال الحصول على معرفة أحدث، مُتَجاهلاً أنّ الدين دافعٌ بشريّ أصيل، وحاجةٌ يوميّة للإنسان، ومكوّنٌ رئيس للثقافة والهُوية. وفي رأيي إنّ كلتا المحاولتين؛ تحويل الدين إلى علم أو تحويل العلم إلى دين، هي محاولة لا فائدة منها.

خلاصةُ القول هي إنّ الدين لا يُوضَعُ في مواجهة إقصائية مع العلم، بحيث نترك للإنسان خياراً واحداً بين اثنين؛ إما أن يأخذ الدينَ ويترك العلم، أو يأخذ العلمَ ويترك الدين، وذلك لأنّ مجالَـي الدين والعلم منفصلان عن بعضهما بعضاً. الإيمانُ حالةٌ شُعورية قلبيّةٌ لا تقوم على البُرهان العلمي التجريبي، وهي لا تُدحَضُ بالبُرهان كذلك. أما العلمُ فيقوم على فرضيّاتٍ ومناهج ونظرياتٍ تعتمد على البرهان العلمي التجريبي، وتتغيّر بشكلٍ يوميّ، ويمكن رفضُها ودحضُها وتكذيبُها بأدواتِ العلم ذاتها.

كلمات مفتاحية