التوق إلى التحرر

2023.07.03 | 06:54 دمشق

التوق إلى التحرر
+A
حجم الخط
-A

كنت أتابع خلال الأشهر الماضية الحفلات الغنائية والموسيقية التي تقيمها هيئة الترفيه السعودية وتعرضها على الهواء مباشرة وآخرها كان حفل تكريم النجم المصري محمد منير (الكينغ) تحت عنوان (مشواري) في احتفالية ضخمة ضمت أهم العازفين في العالم، وقدم فيها منير مجموعة من أغنياته التي ما زال الجمهور العربي يرددها حتى الآن، رغم أن صوت منير وحضوره في الاحتفالية لم يكونا في أحسن حالاتهما (ربما بسبب المرض) لكن كان تفاعل الجمهور الهائل مع الحفل مدهشا ومثيرا للإعجاب؛ ومشابها لتفاعل الجمهور في كل الحفلات السابقة لحفلة منير والتي أقامتها نفس الجهة المنظمة: هيئة الترفيه السعودية.

شاهدنا نساء سعوديات لأول مرة في قاعات الموسيقا والسينما والشعر يجلسن بجانب الرجال بدون حواجز تفرق بينهم، منهن من تضع غطاء لرأسها ومنهن من خلعته من دون أن يشكل ذلك مشكلة لأحد

وبغض النظر عن أهمية هذه الاحتفاليات وما تثيره من ردود فعل موافقة ومعترضة على وضع الفن في وظيفة واحدة هي (الترفيه) فإنه من المدهش رؤية هذا التحول السريع في المجتمع السعودي، ورؤية التوق الذي يفيض من الجمهور السعودي الحاضر في الحفلات للحياة والفرح وخلع عباءة التزمت والالتزام بسلوك فرض بالقوة تحت شعار المحافظة على (المعروف) باسم الدين والعادات الاجتماعية والقيم المجتمعية، التي كانت تطبق فرضا وقسرا على المجتمع السعودي، من دون استشارة الشعب بذلك، ومن دون رغبة منه، وهو ما اتضح حاليا بعد إزالة العقبات التي كانت تقف في طريق السعوديين للانطلاق في الحياة اليومية وعيش حياتهم بطريقة آدمية خالية من الخوف والرضوخ. وقبل حفلات الترفيه إياها شهد سعوديون مهرجانات للسينما العربية والعالمية، وقابلوا نجوم العالم وجها لوجه. عدا الأمسيات الثقافية والأدبية والشعرية التي استقطبت كثيرا من الجمهور السعودي المختلط، حيث شاهدنا نساء سعوديات لأول مرة في قاعات الموسيقا والسينما والشعر يجلسن بجانب الرجال بدون حواجز تفرق بينهم، منهن من تضع غطاء لرأسها ومنهن من خلعته دون أن يشكل ذلك مشكلة لأحد، لا للرجال ولا للنساء ولا لأحد؛ في مشهد يستحقه الشعب السعودي الذي حجبت حقيقته ومدنيته تحت عباءة التزمت الديني والوهابية التي، للأسف، انتقلت إلى شعوب المشرق العربي وحواضره ويبدو أنها تتشبث بمجتمعاتنا كما لو أنها الحصن الأخير لها.

شاهدت من مدة أيضا فيديو يحبس الأنفاس عن طائر كوندور، وهو أضخم أنواع الطيور على الإطلاق، ينتمي إلى فصيلة النسور، ويعيش في جنوب القارة الأميركية. والكوندور من الطيور المعمرة حيث يمكن له العيش لمدة تتجاوز المئة عام. أما الفيديو فيرصد طائر كوندور ضخم جدا في بوليفيا كان مريضا لمدة طويلة وممنوعا عن التحليق لسنوات عديدة كان خلالها يعالج في مركز للطب البيطري ومحبوسا ضمن مساحة ضخمة جدا مجهزة بما يلزم لعلاجه، ومسقوفة بمواد صلبة جدا وفيها بعض الفتحات الصغيرة كي يتمكن الطائر من رؤية السماء لكن دون القدرة على التحليق، بعد شفاء الطائر تماما تم نقله إلى قمة عالية في بوليفيا لإطلاق سراحه وإعادته إلى بيئته الأصلية، مصحوبا بكثير من المصورين والمهتمين لرصد ردة فعله عند إطلاقه. كان الأمر مدهشا حقا، ففي البداية بدا الطائر الضخم على قمة الجبل مترددا وخائفا، يتلفت حوله وينظر إلى مرافقيه ثم يعاود النظر إلى المدى المفتوح أمامه، يفرد جناحيه كمن يهم بالطيران ثم يعاود طيّ الجناحين ويتلفت مرة أخرى، كما لو أنه يسأل من حوله إن كان فعلا يسمح له بالطيران، وكمن يسأل نفسه إن كان سيتمكن من التحليق دون أن يسقط، ودون أن يصاب بأذيةٍ ما تعيده إلى سجنه السابق؛ في النهاية يحسم الطائر أمره ويفرد جناحيه الضخمين ويحلق في السماء مودعا بتصفيق وتهليل مرافقيه. انتصرت قوة الحرية على الخوف عند هذا الطائر النادر، انتصر الميل للتوق والانعتاق والتحرر، انتصرت الطبيعة والغريزة والفطرة لدى هذا الطائر العظيم، ودع مرافقيه وانطلق نحو المجهول بعد سنوات طويلة من الإصابة البالغة التي منعته عن معجزة الطيران. قد يحدث له ما حدث سابقا، قد يتعثر ويسقط، وقد يكسر جناحه ثانية، لكن هذا كله لن يمنعه عن حقه الغريزي والفطري في التحليق وعيش حياته كما ينبغي له أن يعيش.

تركن أنظمة الاستبداد إلى هذا الكمون الناشئ من فائض العنف الذي تتعامل به مع شعوبها، العنف الجسدي والعنف النفسي والعنف المادي، وتظن أنها ضمنت مسيرتها المظفرة إلى الأبد

الكائنات الحية مفطورة على الحرية، هذا ما يجب أن نؤمن به جميعا، هي كالماء، لا يمكن حبسه، مهما طال حبس المياه فسوف تجد منفذا لتتسرب منه. في قلب الصخر يمكنك أن تجد عرقا أخضر يشق الصخر ويمد نفسه بحثا عن المدى والهواء. حيواناتنا الأليفة التي نستأنسها في منازلنا سوف تنساق لفطرتها وغريزتها وتبحث عن أبواب مفتوحة لتخرج منها، ستعود غالبا، لكن عودتها ستكون بحثا عن الألفة التي اعتادتها لا هربا من حريتها. كل الكائنات الحية تميل للتحرر والانعتاق، لكن البشري وحده الذي يمتلك ذاكرة فردية وجمعية تمنعه من البحث عن باب ليخرج نحو الحرية. ذاكرته عن تاريخ من العقاب ومن العنف ومن الاضطهاد، إدراكه للعواقب سوف يمنعه أحيانا من البحث عن كوة الانعتاق. الثورات عادة هي جناح طائر الكوندور. الذي ينفرد معلنا بدء الرحلة نحو الانعتاق. قد تتأخر الثورات وقد تفشل وقد تهزم، وقد تحصل الشعوب على حريتها بفعل أوامر ملكية أو سلطوية من دون المرور بتجربة الاحتجاج والغضب (كما يحدث في السعودية مثلا)، لكن هذه الأوامر قد تكون على هوى الشعوب، ذلك أنها تتناسب مع فطرة الحرية. والتاريخ يخبرنا عن الشعوب متى تنفست هواء حرا ذات يوم فإنها لن ترضخ مرة ثانية. حتى لو تم الفتك بها. حتى لو كمن توقها للتحرر وخبا وهجه. هذا الكمون سطحي، يشبه سطح بحر هائج لا يدري أحد عن ماهية التيارات في أعماقه، تلك التيارات التي سوف تتحول إلى تسونامي من الغضب العارم الذي سيجرف معه كل شيء.

تركن أنظمة الاستبداد إلى هذا الكمون الناشئ من فائض العنف الذي تتعامل به مع شعوبها، العنف الجسدي والعنف النفسي والعنف المادي، وتظن أنها ضمنت مسيرتها المظفرة إلى الأبد، فشعوبها رضخت من جديد وعادت إلى سيرة الخوف الطويلة؛ لكن فائض القوة والعنف يترافق عادة مع استعلاء وعنجهية تمنع هذه الأنظمة من قراءة التاريخ. التاريخ يقول إنه ما من ثورة شعبية أو انتفاضة كبرى قامت في مكان ما وتم وأدها إلى الأبد. كل الثورات التاريخية العظيمة مرت بمراحل كمون وموجات صغيرة ومتوسطة ثم عادت من جديد بعد ترتيب أدواتها وأولوياتها، وبعد استعادة لأسباب الانكسارات والهزائم السابقة وفهمها والعمل على تفكيكها، ستخاف الشعوب من استعادة المبادرة، ستخاف من تغيير ما اعتادته لسنين، لكن صوت الحرية قوي، سيجذب إليه الغاوِين مهما طال الزمن. تعيش الشعوب إلى الأبد طالما فيها شخص واحد فقط يتوق للتحرر. هذا التوق مُعد، سوف يصاب به آخرون وسيشكلون معا بوتقة تضم إليها آخرين إلى زمن ينجز التغيير الكامل والنهائي.