icon
التغطية الحية

البلاد تغيرت للأبد.. صحفي مغترب يزور سوريا ويروي تفاصيل الحياة المأساوية

2022.12.06 | 17:00 دمشق

صور بشار الأسد في اللاذقية قبيل الانتخابات الرئاسية- تاريخ الصورة: 19 أيار 2014
صور بشار الأسد في اللاذقية قبيل الانتخابات الرئاسية- تاريخ الصورة: 19 أيار 2014
New Lines Magazine - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

بعد زيارته لمسقط رأسه اللاذقية، كتب الصحفي نزار كنعان (اسم وهمي) المقالة التالية عن تجربته مع العودة للوطن بعد سنين طويلة أمضاها في الغربة:

صاح المحقق وهو يضرب مكتبه المعدني القديم: "اسمعني! إن اكتشفت كذبة واحدة من قبلك، فسأوقفك وستبقى هنا"، فأخذت أهز برأسي موافقاً وأنا أعب نفساً عميقاً لأهدئ من روعي والقلق الذي بت أحس به وهو يقطع معدتي. كنت في مقابلة لدى فرع المخابرات بسوريا، ذلك المكان الذي يصبح منه الداخل مفقوداً بما أنه لن يبارحه بحياته.

كنت أعرف بأن علي أن أكذب، لأني كنت أدرك حجم المتاعب التي ستلاحقني إن عرفوا مكانتي في العمل في مجال الإعلام خارج البلد، ولكني تحليت بحذر شديد طوال الوقت حتى لا أكشف ذلك، تحسباً للحظة كهذه.

قبل أن أدخل المبنى، اتصلت بكل معارفي، في محاولة للاستعانة بأي منهم، وأوضحت لهم بأنه من دواعي سروري أن أدفع أي رشوة أو أي مبلغ يطلبونه لضمان حريتي. ولكن، على الرغم من أني بذلت كل ما بوسعي، إلا أنه لم تكن لدي أدنى فكرة إن كنت سأعود لموطني في أميركا، أم سأستيقظ لأجد نفسي في أحد سجون بشار الأسد ذات السمعة السيئة.

حتى الآن، كانت تجربتي عادية للغاية في سوريا التي أعرفها، وذلك بحسب ما يرد على الألسنة من قصص وأخبار، ووفقاً لبعض التحقيقات التي خضعت لها قبل زمن طويل من قيام الحرب، عندما كنت أعيش هناك. إذ منذ أن وصل هذا النظام إلى السلطة، أخذ يهدد الشعب ويرهبه وذلك عبر إخضاعه للحكم الاستبدادي، بيد أن الجميع كان يعرف الخطوط الحمراء، وطالما أننا لم نتجاوزها فنحن بخير.

غير أن هذا الاستعراض الروتيني للسيطرة والتحكم يخفي وراءه حقيقة أعمق حول البلد الذي عدت إليه، إذ لم تعد سوريا تلك الدولة الأمنية التي أسسها والد بشار الذي سبقه في حكمها، والمقصود هنا هو حافظ الأسد الذي ورّث ابنه دولة خائفة وخنوعة عند وفاته في عام 2000. فقد تبين لي عند زيارتي لبلدي لرؤية الأهل والأصدقاء بأن البلد أصبحت بخلاف ذلك، أي أن البلد قد ذهب إلى غير رجعة. إلا أن ما ينتظرنا مستقبلاً أشد قتامة، وذلك لأن القبضة الحديدية للأجهزة الأمنية لم تكن الشيء الوحيد الذي رأيته قد تغير، بل إن نسيج المجتمع بحد ذاته قد تغير كثيراً على مدار سنوات النزاع الطويلة.

اللاذقية خلال الحرب

عدت إلى البلد دون أن أحمل أفكاراً أو توقعات مسبقة، إذ لم يكن من السهل اتخاذ قرار العودة بعد سنوات طويلة من العيش في الخارج، لكني اتخذت هذا القرار بدافع الحنين للعودة يشوبه أمل ضعيف بالعثور على نقاط إيجابية تشير لمستقبل البلد.

ولدت وترعرعت في سوريا، حيث كانت أسرتي تعيش في منطقة اللاذقية الساحلية، معقل مؤيدي الأسد، تلك المنطقة التي لم تشهد أي قتال خلال الحرب. كانت اللاذقية من بين المناطق الأشد تحرراً في سوريا، وبقيت كذلك مع اندلاع العنف في مناطق أخرى، حيث لم تتوقف الحياة الليلية ولا الحفلات على الشاطئ، حتى خلال أسوأ فترات النزاع. ولهذا بقيت آخر الأخبار على حسابي عبر انستغرام مليئة بصور لأصدقاء وهم يتحسون الكوكتيلات تحت الشمس، أو وهم يستمتعون بأطايب الطعام في مطاعمنا المفضلة، أو وهم يفرون من الحر عبر الذهاب إلى المنتجعات الجبلية. ولكن، على الرغم من كل تلك الصور البراقة الفخمة، وعدم ظهور العنف الذي أحرق بقية البلد بشكل صريح هنا، إلا أن اللاذقية ماتزال بعيدة كل البعد عن الأمان.

كنت أستمتع في الماضي بالسفر إلى الأماكن الخطرة وتعريض نفسي لظروف حساسة، إذ كان ذلك يبعث في جسدي دفقة من الأدرينالين، إلا أن الوضع اختلف هذه المرة، لأني بقيت أفكر بأسوأ السيناريوهات، ومنها أن أبقى عالقاً في تلك السجون التي تسودها الانتهاكات والعنف الذي اشتهرت به "سوريا الأسد".

قبل وصولي إلى البلد، حدثتني نفسي بأن الخوف هذه المرة ليس بمنطقي، فقد زار العشرات من أهالي مدينتي اللاذقية خلال الصيف الماضي، وكلهم أخبروني بأن الوضع رائع، ولهذا خلت نفسي أخترع المبررات لأتجنب رؤية حقيقة المكان الذي ترعرعت فيه بعد سنوات من الحرب، ثم ضحكت في سري عندما تذكرت بأن وضعي يمكن أن يعبر عن حالة رهاب الوطن وحب التشرد.

بعدما قهرت حالة الارتياب لدي أخيراً، سافرت إلى العاصمة اللبنانية بيروت، وبعد مغادرتي للمطار، عبرت سيارة الأجرة التي أقلتني بين حطام انفجار المرفأ الكبير الذي وقع في عام 2020، وذلك قبل أن نتابع باتجاه الشمال لنصل إلى الحدود السورية. توقف السائق ليملأ عبوات بالوقود حتى يحملها معه إلى سوريا، بما أن الوقود متوفر بشكل أكبر بكثير في لبنان. وعندما وصلنا إلى الحدود، أدركت بأن خوفي لم يكن غير منطقي في نهاية المطاف.

إذ صرخ الضابط على الحدود من خلف الشباك في وجهي وهو يقول: "عليك أن تراجع فرع الهجرة قبل أن تغادر البلد. اجلس ريثما نفرغ من أوراقك".

جلست في القاعة المظلمة ذات الأرضية المليئة بأعقاب السجائر والمترعة بصور الأسد وهو يحدق بي. لعله أمر عابر، قلت في سري، وأنا أطمئن نفسي بأن الأمر لا يعدو كونه مجرد تدقيق روتيني. ولكن سرعان ما استدعيت إلى الشباك، حيث أمسك رجل بيدي وغمس إبهامي بالحبر، ثم جعلني أبصم أسفل ورقة لم يسمحوا لي أن أقرأ ما ورد فيها. فقد ظهرت مشكلة في وثائقي حسبما ذكروا لي، لذا لا يمكنني مغادرة البلد قبل حل تلك المشكلة.

عند مغادرتنا لاحظ السائق مدى قلقي، فحاول أن يهدئ من روعي بالقول: "لو كان الأمر خطيراً لأخفوك هنا على الحدود"، يا لها من طمأنة! قلت في سري. قطعنا عدداً من نقاط الجمارك والتفتيش، حيث قدمنا رشى تتراوح قيمتها ما بين 500 إلى عشرة آلاف ليرة سورية (أي ما يتراوح ما بين عشرين سنتا إلى أربعة دولارات) لما لا يقل عن عشرة أشخاص، وذلك بحسب مكانتهم ومنصبهم ورتبهم.

بدا أحد المتارس على الطريق مختلفاً، إذ لم يقبل الجنود فيه بأي رشوة كما قاموا بعملهم بشكل احترافي، كان هؤلاء عناصر من الفرقة الرابعة مدرعات، أو كما يسميهم العوام: "الفرقة الرابعة"، وهي أقوى فرقة لدى القوات المسلحة السورية، كما أنها الفرقة التي تسيطر على الأمن بشكل فعلي، وتخضع لإمرة شقيق الرئيس، ماهر الأسد. إلا أني سرعان ما اكتشفت بأن همهم الأكبر ليس اجتثاث المعارضة، بل البحث عن الكحول والحشيش والتبغ، بما أن ماهر يسعى لضمان عدم تقويض المهربين لمشاريعه التجارية في مجال الاستيراد.

بمجرد أن أصبحت داخل سوريا، بدا الطريق الدولي الذي يصل إلى اللاذقية بحال جيدة، وهذا ما أثار استغرابي. وأثناء مرورنا بالمدن التي أعرفها، أي طرطوس وبانياس وجبلة، بدأت أحس بالحماسة عندما فكرت بأني سأصل إلى بيتي بعد طول غياب.

لم يمض وقت طويل على ذلك، قبل أن أرى ضوءاً ساطعاً توهج بسرعة كالنور الذي يرافق الرجل الوطواط في عنان السماء. كنا نمر بالقرب من مطار حميميم، أي القاعدة الجوية العسكرية الروسية الأساسية في سوريا. نظرت إلى السائق وسألته عن مصدر ذلك الضوء الساطع وهل مصدره الدفاعات الجوية الروسية، فهز برأسه وأضاف: "لست متأكداً إن كان الصدق سيفيدني، لكن إسرائيل قصفت المطار مرتين خلال فترة قريبة، ثم قصفت مطار دمشق، دون أن يحدث أي شيء".

رشوة حسب الرتبة

عند دخولنا لمدينة اللاذقية، توقفنا عند آخر نقطة تفتيش وسلمنا أوراقنا بالإضافة إلى رشوة أخرى، قبل أن نتابع مشوارنا. كان الظلام الذي يلف المدينة صادماً، إذ لم يكن هنالك أي ضوء تقريباً، وذلك لأن اللاذقية تنعم بأربع ساعات من الكهرباء في أحسن الأحوال.

في اليوم التالي توجهت مباشرة إلى فرع الهجرة لأحل المشكلة التي اعترت وثائقي، وعندها اكتشفت بأن علي أن أتوجه لفرع المخابرات، فانتابتني غصة خوف في قلبي، لأن هذا هو المكان الذي يخشى كل سوري زيارته. تركت متعلقاتي في السيارة، وبدأت أمشي في الشارع. أخذت ساقاي ترتجفان وقلبي يخفق بعنف. ومع اقترابي كان ذلك المبنى القبيح سيئ الصيت يلوح لناظري. صعدت بضع درجات لأصل إلى غرفة صغيرة علقت خارجها لافتة كتب عليها: "غرفة التحقيق".

كان هنالك رجلان يجلسان أمام مكتبين معدنيين قديمين، وكانت الجدران القذرة مزينة بمزيد من صور الأسد. أشار أحدهما دون أن ينبس بكلمة لي إلى أحد الكراسي، فجلست عليه. ثم أتى إلي وحدق بي بشكل مباشر لما لا يقل عن دقيقة قبل أن يعود لمكتبه ويصيح بأولى تهديداته.

ثلاث ساعات من التحقيق أعقبتها إهانات وتهديدات... سألني خلالها عن أي شيء وكل شيء، وعن كل فرد من أفراد عائلتي الكبيرة، وعن المكان الذي عشت فيه، وعن الأعمال التي مارستها، وعن علاقاتي مع المعارضة. كان علي أن أملأ أربع صفحات أشرح فيها كل شيء، وأؤكد من خلالها عدم انخراطي في السياسة.

بعد مرور ساعتين، غادر المحققان الغرفة، فكان أول العائدين إليها ذلك الذي لعب دور الشرطي الطيب، حيث طلب مني ألا أقلق، وأخبرني بأن أحدهم قد كلمهم من أجلي، ما يعني وصول الرشوة التي أعطيتها لأحد معارفي إلى أيديهم.

قد تكون الحرية من نصيبي، لكنهما انتهزا الفرصة ليلعبا بأعصابي خلال ساعة أخرى، حيث واصلا التحقيق معي بلا أي داع، فقط حتى يخيفاني، أو ليعثرا على كذبة ما في حديثي بحيث يمكنهما انتزاع رشوة أكبر مني. عندما غادرت المبنى، جلست في السيارة بجانب أبي، وأخذت أبكي كطفل صغير. أحسست بشيء من الراحة، إلا أن كثيرا من الدمار النفسي باغتني بسبب الذل والمهانة التي تعرضت لها.

كان المحقق يتسلى على حسابي، لأنه شعر بخوفي وقلقي فقرر أن يلعب بي. كنت أعرف بأني لم أرتكب أي ذنب، لكني رغبت بأن أضحك وأن أتأكد من وصول رشوتي إليهم. كما أني على يقين من أنهم يستخدمون هذا الأسلوب ليرهبوا الناس وليضمنوا عدم خوضهم بالعمل السياسي عند عودتهم إلى البلد التي يقيمون فيها. وكل ذلك يجدي نفعاً بحق، إذ صرت أخشى التقاط الصور خلال رحلتي، فقد أخبرني المحقق أن الاستجواب قد يستغرق شهراً حتى ينتهي، بالرغم من أني قد خططت لمغادرة البلد في غضون أسبوع.

كنت أعرف أني كنت في السليم لأني دفعت رشوة واستعنت بمعارفي الذين ساعدوني وتأكدوا من كل شيء ووعدوني بتسريع العملية. إلا أني كنت مستغرباً بكل صدق، وذلك لأنه إن تبقى شيء مألوف لدى السوريين فلا بد وأن يكون استعدادهم لمساعدة غيرهم.

عندما عدنا إلى البيت، ألفيت أبي على الشرفة بمفرده، والقلق الذي خلفه كل ما حدث قد أحدث شرخاً في روحه، ما دفعه ليقول لي: "كل هذا بسببي.. كان علي ألا أدعك تأتي لزيارتنا". بيد أنه لا يمكن لأحد أن يفهم كيف يمكن لأب عربي أن يصل لهذه المرحلة، إذ من عادة الأهل عندما يسافر ابنهم أو ابنتهم خارج البلد أن يشعروا بكسرة في القلب، إلا أن الأهل باتوا اليوم يحتفلون بسفر أولادهم!

تاريخ الهجرة في سوريا

إن رحيل الشباب عن سوريا ليس بالأمر الجديد، إذ حتى قبل الحرب، ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، بدأت موجة هجرة كبيرة بين صفوف العمال المهرة والمتعلمين من الشباب، خاصة الذكور منهم، وكان الفساد وتراجع الاقتصاد وانعدام العدالة في العمل والتعليم من بين دوافع تلك الهجرة الكبيرة. وثمة سبب آخر وهو الخدمة العسكرية الإلزامية في سوريا التي ينبغي على الشاب أن يؤديها بمجرد أن يبلغ الثامنة عشرة من عمره، على الرغم من أن الوحيدين من الشبان يعفون من أدائها وذلك حتى يعيلوا أهلهم وعشيرتهم الكبار في السن، كما يمكن للشبان عموماً تأجيل الخدمة طوال فترة دراستهم. ولكن بمجرد أن تنتهي الدراسة، تصبح نافذة الرحيل ضيقة، ولهذا درس كثيرون وسافروا وهم شبان صغار إلى الدول الغربية والخليجية. وهذا لا ينطبق على من حصلوا على تعليم عال فحسب، بل أيضاً على من يتمتعون بمهارات رفيعة. أي أن من بقوا في البلد هم غالباً من الشبان الوحيدين أو ممن لم تتسن أي فرصة لهم حتى يرحلوا، أو ممن لديهم مشروع تجاري أو أسرة، أو ممن قرروا أن يجربوا حظهم في الجيش، بيد أن معظم من قرروا البقاء ندموا على ذلك القرار.

تمتد الخدمة العسكرية عادة لسنتين، إلا أن الشبان الذين بدأت فترة خدمتهم عند اندلاع الحرب أجبروا على البقاء في الخدمة لمدة عقد كامل تقريباً، ومعظم من أنهوا خدمتهم قبل الحرب تم استدعاؤهم أيضاً للاحتياط وأجبروا على المشاركة في القتال. التقيت أحدهم في الشارع، وهو صديق قديم، فأخبرني بأنهم استدعوه للاحتياط فأمضى سبع سنوات ونصف على الجبهة في درعا جنوب البلاد، وحول تلك التجربة لم يسعه إلا أن يقول: "رأيت الويل".

التقنين في كل مكان

لأول مرة منذ قدومي انحسرت مخاوفي التي شلتني فبدأت أرى المدينة بعينين مفتوحتين. لم تكن هنالك حركة مرورية خانقة، إذ بوسعك أن تجوب المدينة في غضون 15 دقيقة عند منتصف النهار، وذلك لأن ندرة الوقود دفعت الناس للإحجام عن الذهاب إلى أي مكان إلا إن اضطروا لذلك.

وبسبب انقطاع الكهرباء، أصبح ضجيج المولدات يملأ الأجواء برائحة المازوت. أما في الليل، فلا يمكنك أن تتجول بلا ضوء، كما أن الشوارع قذرة ومدمرة بشكل لا يوصف. فعلى ناصية الشارع حيث أقمت كان هنالك أنبوب صرف صحي مكسور بقي كذلك لأشهر دون أن يقوم أحد بإصلاحه.

أما الكوليرا فقد أصبحت مصدر قلق متزايد لكل الناس في البلد، ولهذا تجنبت تناول السلطات أو أي شيء يمكن أن يغسل بمياه ملوثة خلال زيارتي. لم يكن الأطباء الذين تحدثت إليهم متأكدين ما إذا كان المرض قد ظهر بسبب المياه التي يشتريها الناس من السوق السوداء، أم بسبب انقطاع المياه، أم بسبب استخدام مياه المجارير للري.

كل شيء مقنن بشكل قاس، وهذا لا ينطبق فقط على الكهرباء والماء، بل على الوقود، وغاز الطبخ، والمازوت والرز والسكر، بل حتى الخبز. إذ تصل للناس رسائل نصية على هواتفهم لتبلغهم بموعد دورهم لشراء كميات قليلة من تلك المواد.

الغريب هنا هو أن معظم الرجال يحملون حقائب لا تشبه النوع المعروف المستخدم بين رجال اللاذقية، إذ بسبب انهيار العملة، بات من الضروري حمل مبالغ كبيرة من المال لا تتسع لها الجيوب بمفردها. كما أصبح لدى جميع المتاجر والمطاعم أجهزة عدادة توضع على المنضدة.

حياة أخرى للأثرياء

تصبح الصورة أقل قتامة بكثير مع الأثرياء، إذ بوجود المال بوسعك أن تشتري أي شيء من السوق السوداء، بما في ذلك أحدث أجهزة الآيفون، على الرغم من أن سعرها أعلى من السعر الرسمي بثلاثة أضعاف. وتسيطر عصابات الأسد على تلك التجارة، كما بوسعها القيام بكل ما تريده لتحصيل الملايين. بالرغم من أني أتفهم ضرورة فرض عقوبات غربية، إلا أنها تسببت بالمزيد من التعاسة للناس العاديين فيما زادت من ثروات هؤلاء السفاحين والعصابات. ولذلك بت أسأل نفسي: ما الذي ينبغي على المجتمع الدولي فعله بعد كل هذا؟ بودي أن تكون لدي إجابة على هذا السؤال.

لم تكن سوريا بحياتها دولة غنية، لكنها لم تشهد فقراً كالذي تعيشه اليوم، إذ أصبحت الشوارع الآن تعج بأطفال يعانون من سوء التغذية ويبحثون في حاويات القمامة، كما تفشت الأمراض الجلدية بين الناس، إلى جانب حالات فقدان الأسنان التي نراها في الشوارع بين الناس. أما العجائز فنراهم في الطرقات وهم يتكئون على ما يعينهم على السير حاملين أكياساً تحتوي على مشترياتهم.

بحسب إحصائيات الأمم المتحدة، فإن أكثر من 90% من الشعب السوري يعيش تحت خط الفقر، وما لا يقل عن 60% يعاني من انعدام الأمن الغذائي.

غير أن هذا العوز وتلك الفاقة يتناقضان بشدة مع سيارات الدفع الرباعي ذات النوافذ المظللة التي تجوب الشوارع، وهي ممتلئة بالشبيحة. أما الشعب فيسرد قصصاً مرعبة عن حالات الجريمة والعنف المفرط، فيبدو المشهد وكأنه نسخة سورية لمسلسل العصابات المكسيكية الذي عرض على نيتفليكس.

"أين الشبان؟"

وفي الوقت ذاته، تغص المقاهي والمطاعم والبارات بزائريها، لتكون من بين شواهد قليلة متبقية عن الأيام الجميلة الخوالي. من الواضح أن هنالك قلة من الناس ماتزال تنعم بالمال، وهم من يملؤون تلك الأماكن، إلا أنها لم تعد كسابق عهدها تماماً، إذ لا أتذكر وجود نادلات في اللاذقية مثلاً، على الرغم من أن معظم من يعملون في المطاعم والمقاهي والمحال اليوم نساء، حتى في أشد الأماكن محافظة. ثم إنني لم أقابل امرأة واحدة لا تعمل، بصرف النظر عن طبقتها الاجتماعية.

سألت أصدقائي في أحد المقاهي حيث كنا نشرب: "أين الشبان؟"، فأجابني أحدهم: "ماتوا، أو في الجيش، أو رحلوا كما ينبغي علي أن أفعل.. كم كنت غبياً عندما أقنعت نفسي بأن الأمور ستتحسن، ولكن هذا ما وصلنا إليه".

حاول صديق آخر أن يمازحه بالقول: "من الأفضل أن تبحث عن عروس"، لكنه لم يفلح بإضحاكنا، كما لم تعد الكوميديا السوداء السورية المتميزة تضحك أي أحد، إذ في الشوارع، إن لم تر  ملصقات وصوراً للأسد فسترى صور "الشهداء" الذين ماتوا في الحرب، ما يعكس حجم الخسارة التي يمكن للمرء أن يتخيلها اليوم.

كما حدث خلال نزاعات كثيرة في التاريخ، تأتي النساء بالضرورة لتملأ الفراغ الكبير في الأدوار ضمن المجتمع السوري، ما أدى لكسر حاجز المحرمات بالنسبة لعمل النساء في مهن أو وظائف معينة. كما أن المباني الحكومية باتت تعج بنساء كبار في السن يحاولن أن ينجزن معاملات الأسرة، بعدما كان الذكور هم من يقومون بذلك بشكل حصري. وصرنا نرى النساء في أسواق الخضراوات، لا ليشترين فحسب، بل ليبعن أيضاً.

أخبرتني صديقة سافرت إلى اللاذقية مؤخراً لترى والدها عن سيدة تعتني بأبيها، فقالت: "رأيت كم تغيرت سوزان، فقد كانت فتاة تقليدية تنتظر من زوجها أن يعيلها، أما اليوم فقد أصبحت تدرس في الجامعة، وتعمل في ثلاث وظائف، بينهم العناية بأبي، فهي أم عازبة، ولديها حبيب دون أن تبقي أمر علاقتهما طي الكتمان. ولا أعتقد بأن الذكور في عائلتها بوسعهم أن يتحكموا بها بعد الآن، كونها تكسب أكثر منهم على ما أعتقد".

وأضافت: "لا أعرف امرأة ليس لديها عمل اليوم". كان عدد النساء العاملات في سوريا أعلى نسبياً في المنطقة على الدوام، بيد أن عملهن كان يقتصر على قطاعات معينة (وهي التعليم والصحة وغيرها من الوظائف الحكومية)، أما اليوم، فقد صرن يعملن في كثير من الوظائف التي كانت حكراً على الرجال في السابق. ولهذا تقول صديقتي: "لا أقول بإن كل المحرمات قد تحطمت بشكل كامل وبأن الهيمنة الذكورية قد انتهت بشكل كلي، لأننا مانزال بعيدين عن بلوغ تلك المرحلة، ولكن الأمور تغيرت قطعاً، إذ يمكن للنساء اليوم أن يعملن في أغلب المهن، وأن يبقين خارج بيوتهن حتى ساعات متأخرة، وأن يتمتعن باستقلالية أكبر بقليل مما كن عليه في السابق، كما تفجرت لديهن طاقات كبيرة، إذ تحس بأن معظم الشبان يجلسون عاطلين ويشعرون بالكآبة بانتظار فرصتهم بالرحيل، في حين تتولى النساء مهام إدارة الأمور وإنجازها".

الأغبياء مايزالون في السلطة

ثمة إحساس سائد على الرغم من القذائف التي ماتزال تنهمر على محافظة إدلب بأن الحرب قد انتهت عموماً، وتركت الأسد في السلطة كما كان. إلا أن هذه النهاية الملموسة لا تخلف أي إحساس بالارتياح، حتى في اللاذقية معقل الأسد.

شرح لي أحد أصدقائي الوضع بالقول: "كان الوضع أسهل خلال الحرب، على المستوى النفسي، إذ كنا ننعم بإحساس النجاة، وكنا نعرف بأن علينا أن نضحي، أما الآن، بعدما انتهى كل شيء، لم نعد نتأمل أي شيء، أي لم يعد هنالك أي أمل". وهنا يضيف آخر كان يجلس على الطاولة الأخرى: "مايزال الأغبياء أنفسهم في السلطة" أدهشني ما قاله، بما أن هذه المنطقة معروفة بولائها للأسد، ولكن اليوم بات الجميع يسخر من الأسد وينحي باللائمة عليه، ولعل أشدهم غضباً عليه هم العلويون، تلك الأقلية الدينية التي تنحدر عائلة الأسد منها.

شرح لنا رجل يجلس على الطاولة الأخرى الوضع بقوله: "إن ذهبت إلى قرى العلويين، فلن تجد رجالاً فيها، لأن جميعهم ماتوا وهم يحاربون من أجله (أي من أجل الأسد)، ولكن ما الذي جنوه بالمقابل؟ إنهم يعيشون في فقر مدقع. أما السيدة الأولى فتزور تلك العائلات لتحظى بفرصة لالتقاط صورة معهم، ثم تعدهم بأشياء رائعة وبعدها تغادرهم، دون أن يحصلوا على أي شيء".

لطالما شعرت بأن العلويين الذين لا يستفيدون بشكل مباشر من النظام، وهم الأغلبية، هم أكثر ضحايا هذه الحرب، إذ لم يكن أمامهم أي خيار سوى أن يحاربوا من أجل الأسد عندما انقلبت الأمور من ثورة إلى حرب، إلا أن هذا لا يعني بأنهم كانوا مؤمنين بالقتال.

كان عليهم أن يؤيدوا الأسد، على الرغم من أنه ساق معظم شبابهم إلى حتفهم، وإن لم يفعلوا ذلك فسيواجهون الإسلاميين الذين ارتكبوا مجازر، والذين سيذبحون كل من يقابلونه في المناطق العلوية إن أفلحوا بالوصول إليها.

على الرغم من المناسبات الاجتماعية التي تقام في بارات اللاذقية والتي أعرفها منذ أيام صباي، إلا أني بقيت أحس بالتوتر والضيق بانتظار انتهاء التحقيق بأوراقي وبوضعي حتى أغادر، ولكن خلال تلك المرحلة بلغني ذلك النبأ الذي وضع الأمور في نصابها الصحيح، وهو غرق قارب يحمل ما بين 120-150 شخصاً كان متوجهاً إلى أوروبا قبالة الساحل السوري، فكانت حصيلة الموتى بحسب الأرقام الرسمية 94 قتيلاً، وقد أبحر ذلك المركب من شمالي لبنان، وعلى متنه لبنانيون وفلسطينيون وسوريون، معظمهم من أبناء مدينة اللاذقية.

بدأ الموج يحمل جثث القتلى إلى الساحل، فنقلتهم سيارات الإسعاف التابعة للصليب الأحمر إلى بيوت أهلهم، كما انتشرت صور الضحايا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فبدأ الناس بالتعرف على هوياتهم، ما زاد من النقمة والحزن الذي تعاني منه تلك المدينة التعيسة.

تحدثت إلى نادل أخبرني بموعد سفر قاربه إلى أوروبا قبل يوم على إبحاره، حدث ذلك في مقهى في اليوم الذي انتشر فيه خبر غرق ذلك القارب، فسألته: "ماذا ستفعل الآن؟" فأجابني: "سأسافر عبر ليبيا، لأنه من المرجح لذلك القارب أن يغرق هو أيضاً".

ألفيت نفسي ممتناً لفكرة صعودي على متن الطائرة التي ستقلني إلى بلدي الجديد، على الرغم من إحساسي بالعجز عن مساعدة الناس الذين سأتركهم خلفي. وفي اليوم التالي سمح لي بالمغادرة.

سوريا ومساكن الشباب

عندما ركبت السيارة التي سارت بي لتمر من أمام الجامعة المقامة عند مدخل المدينة، لاحظت وجود مجمع يضم نحو 10-15 بناء شاهقا، كان اسم هذا المشروع "مساكن الشباب"، إذ من المفروض لتلك الأبنية أن تؤوي الآلاف من الشباب، وقد بدت لي جديدة وزاهية الألوان، لكنها كانت خاوية على عروشها، وغير مفروشة بأي أثاث من داخلها، في صورة تشبه تماماً وضع البلد.

حملتني السيارة عائدة إلى بيروت، حيث اجتزنا عربات عسكرية روسية تحمل أعلاماً ومطلية بالرمز  Z الذي اشتهر بسوء صيته حديثاً.

بقيت لحظة قلق أخيرة بانتظاري، كانت بمثابة هدية وداع تركها النظام لي، حيث أخبرني ضابط في الهجرة بأن اسمي لم يمسح من القائمة، ما يعني بأنني لا أستطيع أن أغادر، فتوترت على الفور، إلا أن السائق نفحه رشوة فعثر بقدرة قادر على التعليمات التي بوسعه أن يمسح اسمي من تلك القائمة بواسطتها. عبرت الحدود إلى لبنان، متوجهاً لحياة أنعم فيها بالراحة التي تمنيت أن أحس بطعمها، لكني منيت بدلاً من ذلك بإحساس الذنب الذي ينتاب الناجي والذي اجتاح روحي بلا هوادة.

مددت يدي لحقيبتي حتى أتابع قراءة رواية 1984 لجورج أورويل، لا أتذكر متى قرأت تلك الرواية للمرة الأولى، لكني مازلت أتذكر الشبه الرهيب بينها وبين ما عشته في طفولتي. أردت أن أقرأ الرواية مرة أخرى في محاولة للمقارنة بين ما ورد فيها وما تركته خلفي وأنا أرحل عن بلدي مرة أخرى.

الأخ الكبير في كل مكان

وجدت نقاط شبه كثيرة، إذ كان البناء الذي تم استجوابي فيه يشبه البناء الذي احتلته إحدى الوزارات المذكورة في هذا الكتاب. كما أن صورة الأسد التي بقيت تحدق في أينما ذهبت ذكرتني بالعبارة الشهيرة: "الأخ الكبير يراقبك"، وبكل تأكيد، فإن مستويات الدعاية اللامعقولة التي اجتاحت شبابي قد صُورت في الرواية بشكل رهيب هي أيضاً.

لكني تعلمت خلال رحلتي إلى بلدي بأن سوريا اليوم لم تعد تشبه الصورة التقليدية القاتمة التي رسمها أورويل في روايته، كما كانت أيام الأسد الأب، أو خلال الفترة التي سبقت بداية النزاع. إذ لم تعد سوريا تلك المدينة الفاسدة القائمة على تنظيم معين والتي يخضع فيها كل شيء للسيطرة والتحكم، بل تحولت إلى أرض يباب ينعدم فيها الأمل وينتشر فيها اليأس. كما أصبح الناس يكرهون "الأخ الكبير" ويعبرون عن كرههم له بصوت عال، وهذا الأمر جديد على سوريا، إلا أن العجز يأكلهم بما أنهم لا يستطيعون أن يجدوا أي بدائل.

كنت أود أن أكتب شيئاً إيجابياً واحداً، بل أحب أن أكتب عن لطف الشعب السوري وإرادته القوية التي ستخرجه من هذه المرحلة في تاريخه، لكني بحثت عن الإيجابيات فعلاً، فلم أجد ما يستحق الذكر سوى أن هذه المأساة خلقت حالة من التمكين بالنسبة للنساء، حتى ولو بشكل محدود.

لابد أن تستعيد سوريا عافيتها يوماً ما، إلا أن الأمل ضعيف أن يحدث لها ذلك خلال حياتي.

المصدر: New Lines Magazine