احفظوا هذه العبارة: "إيران لن تنسحب من سوريا أبداً" 

2019.07.14 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

هناك جملة واحدة في كلام حسن نصرالله، يوم الجمعة 12 تموز، على كل السوريين التوقف عندها وعدم نسيانها، بل واستذكارها طوال عقود مقبلة. قال: "إن إيران لن تنسحب من سوريا أبداً".

لا تستطيع الدولة الإيرانية، بوصفها دولة، قول ذلك. كما لا يستطيع الولي الفقيه علي خامنئي، الذي يعلو كل سلطة أن يجهر بهذا القول، لما يترتب عليه حساباً لسلطته وحرسه. وحده حسن نصرالله، المتحرر من الدساتير والقيود الدبلوماسية والمعاهدات الأممية، يستطيع البوح بالأمر من غير تبعات، من ناحية، ولديه الجدارة في منح الكلام هذا وزنه وموثوقيته، من ناحية ثانية.

لم يكتف نصرالله بالقول مثلاً أن لا انسحاب عسكرياً إيرانياً، بل قصد تماماً أن تكون عبارته جازمة في معناها التام. وهو رجل يعرف تماماً استخدام القاموس والكلمات. تلك الـ"أبداً" في جملته الفادحة، هي التي يجب أن يرتجف منها السوريون (وكل سكان المشرق). هي إعلان سيكون له تبعات تاريخية كبرى، قد يصعب تجاوزها أو تغييرها أو تجاهلها.

الإيرانيون قادمون ليس فقط للدفاع عن بشار الأسد، بل للاستحواذ على سوريا وضمان بقائها في المدار الإيراني إلى يوم الساعة

فحوى جملة حسن نصرالله، يعرفها السوريون بالحدس منذ مطلع العام 2012. الإيرانيون قادمون ليس فقط للدفاع عن بشار الأسد، بل للاستحواذ على سوريا وضمان بقائها في المدار الإيراني إلى يوم الساعة. وهم وجدوا في حملة الدفاع عن النظام الفرصة الثمينة لتحويل سوريا من مجرد بلد حليف إلى بلد ملتحق، ومندمج في المشروع الإيراني القومي – الإمبراطوري، بأبعاد اقتصادية وسياسية ودينية وثقافية، متماسكة كلها في تصور أيديولوجي فعال.

الاستخفاف بتصريح نصرالله، أو القول بلامعقوليته، هو أول عامل نجاح لهذه الـ"أبداً". والاطمئنان أن سوريا بسعتها وبملايين شعبها لا يمكن أن تُبتلع.. هو إنكار لواقع أن تلك الـ"سوريا" قد تم تحطيمها، وهي بلد مستباح لأي مشروع إعادة تكوين.

من لا يعرف السيرة الإيرانية منذ العام 1979، في الداخل والخارج، قد يظن كلامنا تهويلاً. ومن لديه ذاكرة ولا يريد أن يأخذ العبر من الماضي، قد يهزأ من ظننا الخطير. لذا، من الجدير هنا أن نلتفت إلى مدى "النجاح" الإيراني في عدم الانسحاب أبداً من المكان الذي تدخله، وفي توليد أسباب بقائها الدائم، وفي تبديل أحوال بلاد وهوية جماعات على نحو لم تستطعه إلا بضع تجارب استعمارية قليلة (جنوب أفريقيا، إسرائيل..).

تقدم الأيديولوجيا الإيرانية نفسها بوصفها "ثورة المستضعفين"، وهي خاطبت بسهولة ويسر تلك الجماعات المستضعفة أو المضطهدة في دول المنطقة. وبطبيعة الحال، لم يكن لا منسوب الديموقراطية ولا منسوب الوطنية بما يكفي للحفاظ على ولاء الجماعات لدولها التي اتسمت غالباً بالظلم والعسف والبطش، كما اتسمت بكرهها لأي حوار أو إنصات لمطالب السكان، وأنكرت أصلاً التمايزات والهويات المتعددة والإشكاليات الطائفية ومسائل أخرى إثنية، بذريعة "الصهر" والانصهار القومي والوطني، أو على الأقل (كما في لبنان) وجود جماعة تعاني تهميشاً وفواتاً تاريخيين. 

هكذا، على الفور، ومع دعوى الثورة الخمينية تلك، التي استجابت لها أيضاً استفاقة إسلام سياسي "ثوري"، وقام رداً عليها تصنيع إسلام "جهادي" برعاية أنظمة كبيرة أفزعها خسارتها الشرعية الدينية، كما أفزعها الطابع الشيعي للخمينية.. على هذا كله، ظهرت أسباب الضعف والتصدع في كل المشروع القومي العربي، كما في مشروع الدولة الوطنية الجامعة. وبانت الحرب العراقية الإيرانية الضارية في الثمانينات عن مسارين. المسار الإيراني أولاً، كانت الحرب هي الكفيلة بتوطيد نظام الثورة الوليد من جهة وبتعميق الشعور القومي والتماسك الوطني من جهة ثانية. المسار العراقي ثانياً، كانت الحرب هي الكفيلة بانكشاف عمق الانقسام الطائفي (الشيعة) والإثني (الكرد)، من جهة، وبظهور القطيعة بين الدولة والمجتمع. كان صدام حسين يقاتل على الجبهة الحدودية، ويحارب المجتمعات العراقية في الداخل بالوقت نفسه.

ما حدث أن إيران خسرت الحرب وربحت العراق نفسه، أو بالتحديد الأكثرية الشيعية فيه. لذا، ما إن سقط صدام حسين، حتى وقع العراق كله بيد إيران. ما نعنيه هنا أن إيران باتت في قلب العراق، حتى من دون احتلال. فخلال أربعة عقود، تمت إعادة تشكيل الهوية العراقية والذات العراقية، وجدانياً وثقافياً ودينياً وسياسياً على نحو لا يمكنه الفكاك من النفوذ الإيراني.

المثال العراقي، وإن بتفاصيل مختلفة، بحرب أو من دونها، تم تنفيذه في مناطق سكن أقليات أو أكثريات دينية أو إثنية أو حتى مجرد أقلية سياسية (حماس مثلاً، وكادت البوليساريو تلحقها)، في البحرين والسعودية ولبنان واليمن وفلسطين.. هي اليوم تمحض إيران ولاء مطلقاً يوازي الولاء القومي إن لم يتفوق عليه، بما يدمر أي حصانة أو مناعة أمام هذا النفوذ العميق وجدانياً وأيديولوجياً وسياسياً، وأحياناً كثيرة اقتصادياً.

إن سوريا اليوم أبعد ما تكون عن كونها دولة وطنية جامعة لمواطنيها

إن سوريا اليوم أبعد ما تكون عن كونها دولة وطنية جامعة لمواطنيها، وما يفعله الإيرانيون منذ مطلع العام 2012، على نحو ممنهج، هو إعادة تشكيل سوريا أخرى، ديموغرافياً ووجدانياً ودينياً وسياسياً، في مشروع استعماري مقنّع، يخلق حقائق اجتماعية واقتصادية وعمرانية، من الصعب جداً تجاوزها أو إزالتها.

بهذا المعنى، نعم، على السوريين أن يصدقوا كل كلمة قالها حسن نصرالله: إيران لن تنسحب أبداً من سوريا. تلك هي مهمة السوريين اليوم، الشاقة والطويلة الأمد: تحرير سوريا.

نأمل بذلك أن لا تتكرر تجربة "تحرير فلسطين" الكارثية والخائبة منذ ثمانين عاماً.