icon
التغطية الحية

"أصفر ونجار".. ثورة زراعية قتلها الإصلاح الزراعي شمال شرقي سوريا

2022.12.01 | 17:47 دمشق

حقل قمح في فرنسا ـ رويترز
شهدت الجزيرة السورية في ثلاثينيات القرن الماضي نهضة زراعية غير مسبوقة ـ رويترز
تلفزيون سوريا ـ بثينة الخليل
+A
حجم الخط
-A

نهضة زراعية غير مسبوقة شهدتها الجزيرة السورية في ثلاثينيات القرن الماضي، وبلغت ذروتها في الأربعينيات. فخلال عقد من الزمن باتت الحسكة ثاني محافظة سورية في إنتاج الحبوب، وأصبح شمال شرقي سوريا سلة غذاء سوريا، وقاعدتها لزراعة القطن الذي يشكل المادة الأولية للغزل والنسيج، أهم صناعات سوريا وأساس حضاراتها عبر العصور.

ونشأت في الجزيرة مدن وبلدات جديدة، وازدهرت مدن منسية ومهمشة، وباتت الحسكة والقامشلي والمالكية على كل لسان في سوريا. وبدأ صناعيو وتجار المدن الكبيرة، وفي مقدمتها دمشق وحلب، يستثمرون في أراضي الجزيرة والفرات، إلى جانب أبناء المنطقة.

ومن بين الأسماء التي لمعت في تلك الفترة الذهبية، عائلتا "أصفر ونجار"، اللتان بدأتا تعملان في مجال الزراعة، وتملكتا مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية في  القامشلي والبلدات المحيطة بها، إضافة إلى منطقة الخابور، وخاصة في رأس العين. وأسست العائلتان شركة - مؤسسة "أصفر ونجار" التي زرعت القمح والشعير والقطن والأرز على مساحات زراعية كبيرة، وأدخلت الآلات الزراعية والتقنيات الحديثة لأول مرة إلى المنطقة. وباتت "أصفر ونجار” المالك الأكبر للأراضي الزراعية في الجزيرة، إن لم يكن في كل سوريا، وكانت العائلة تعبر عن "البرجوازية الوطنية".

مؤسسة "أصفر ونجار"

ومن الطريف أن العائلتين، قبل أن تجمعهما الشراكة، جمعتهما امرأة واحدة، يمكن وصفها بأنها أم العائلتين. إنها السيدة مريم رضوانلي، التي تزوجت من كبير عائلة أصفر (أبو مسعود هرموش أصفر) وبعد وفاته تزوجت من كبير عائلة نجار (سعيد نجار). ولذلك يطلق أهل المنطقة على آل أصفر وآل نجار اسم "عائلة أصفر ونجار" وليس عائلتي أصفر ونجار.

ومسعود أصفر، هو العقل المدبر للعائلة، وهو الذي جعلها عائلة اقتصادية قامت بثورة زراعية في شمال شرقي سوريا بسرعة لافتة للنظر.

ففي عام 1930 باعت العائلة أملاكها في ديار بكر، حيث كانت تعمل في تربية دودة القز وتصنيع الحرير، وانتقلت واستقرت في القامشلي.  وفور استقرارها، أسست مؤسسة "أصفر ونجار"ثم قامت بشراء قرية "ملّوك سراي"، ثم اشترت قرى أخرى. ثم بنت سداً تخزينياً من الحجر والإسمنت على نهر الجغجغ لنقل المياه إلى قرية تل التين ولتزرع أراضيها بالأرز، وأسست في القامشلي معملاً حديثاً لتقشير الأرز.

دخول الجزيرة عصر المكننة:

في عام 1936 استوردت "أصفر ونجار" الجرارات والحصادات، في أول دخول للمكننة في منطقة الجزيرة السورية. لا بل إن وصول الجرار الزراعي من ماركة "case" والحصادة من ماركة "Masy Haris" إلى الجزيرة في ذلك العام، سبق وصوله إلى جميع دول المشرق.

 وفي عام 1938 استوردت المؤسسة الجرار من نوع "caterpillar" والحصادة الدرّاسة من ماركة "John Deer" ولكنها لم تكن الوحيدة، فقد اشترى ملاك آخرون في الجزيرة ثلاثة أضعاف ما استوردته المؤسسة الرائدة من هذه الآلات، لتتحول المكننة إلى ظاهرة عامة.

الاختبارات الفنية الزراعية

وذهبت "أصفر ونجار" أبعد من إدخال المكننة إلى قطاع الزراعة، فقد أقامت مركزا للأبحاث والتجارب الزراعية، أحضروا بذورا من تركيا ومصر والهند الصينية واليابان وأميركا وإيطاليا، وأجروا تجارب عليها لمعرفة أكثرها ملاءمة للزراعة في شمال شرقي سوريا، وأدخل لأول مرة تقنيات تعقيم البذور وحمايتها من الأمراض.

اقرأ أيضا: رغيف الخبز يحتضر في سوريا

مشاريع نموذجية شمال شرقي سوريا

- وفي عام 1942 بدأت المؤسسة مشاريع رائدة في مجال الري، حيث أقامت مضخات مائية بمحركات كبيرة على نبع "عين الزرقا" في منطقة رأس العين، ترفع المياه من النبع بارتفاع 15 مترا وتنقلها بالسواقي والقنوات إلى الأراضي المجاورة لزراعة الأرز.

وأقامت مشروعاً على نهر الخابور لنقل مياه النهر بالمضخات والأنابيب الفولاذية لمساحة شاسعة يعمل فيها نحو 4 آلاف عامل زراعي، جهّزت لهم منازل نموذجية تستوعب 300 عائلة فلاحية، بشكل مدينة زراعية منظمة ومضاءة بالكهرباء، ونجحت المؤسسة في إنشاء نظام تعاوني زراعي، من خلال منح العاملين فيها ومكافأتهم بقطع من الأرض والآلات لتنفيذ مشاريع زراعية خاصة بهم.

ونشأت قرية نموذجية وسط أراض مستصلحة، فيها جميع الأسباب اللازمة لاحتياجات الاستثمار الزراعي الحديث (أشبه بكاليفورنيا صغيرة وسط البادية) وسط أراضي مستصلحة، سميت بـ "مبروكة" واستقر فيها نحو 2000 عائلة.

من الحسكة إلى أوروبا

ولاستكمال كل متطلبات النهضة الزراعية المنشودة، أنشأت مؤسسة – شركة "أصفر ونجار" أول محطة لمراقبة الأحوال الجوية في الحسكة، تسجل درجات الحرارة ومستوى الرطوبة وسرعة الرياح وكميات الأمطار. وكان عمل المحطة علمياً ودقيقاً إلى درجة أن بياناتها صارت تعتمد في الإحصاءات الزراعية الرسمية، وفي مؤسسات الرصد الجوي.

وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها عام 1945 أسست المؤسسة فرعاً لها في حلب لتسويق إنتاج فرعيها في القامشلي ورأس العين، شمل ميزاناً أرضياً عملاقاً، ومجمعاً لتجفيف الأرز بالحرارة، ومصنعاً لقشر الأرز هو الأول من نوعه في الوطن العربي، ومستودعات من الحجر والإسمنت.

ومنذ عام 1950 توسعت الطاقة التصديرية للمؤسسة، مما دفعها لتأسيس شركة تجارية للاستيراد والتصدير في عام 1952 مقرها دمشق، بدأت بإقامة علاقات تجارية واسعة، وعينت وكلاء في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإنكلترا والدنمارك، ووظفت مندوباً لها في بورصة لندن. وخلال بضع سنوات تمكنت الشركة من تصدير ما يزيد على 300 ألف طن من الشعير و100 ألف طن من القمح إلى أوروبا.

بعد ذلك أسست "أصفر ونجار" فرعاً للنقل، واستوردت لذلك أسطولاً من الشاحنات الكبيرة. ووفاء لمهنتها الأصلية ومصدر رأسمالها الأول في ديار بكر، أنشأت الشركة عدة مزارع لدودة القز لإنتاج وتصنيع الحرير الطبيعي.

حلم عائلة دمره حزب البعث

هذه المسيرة توقفت عن التصاعد عام 1958 حيث بدأت سياسات التأميم والإصلاح الزراعي، التي تحدد سقفاً للملكية الخاصة للأرض الزراعية، وتجعل ما يزيد عليها ملكاً للدولة. وظلت مشاريع "أصفر ونجار "تصغر وتذبل وتسلب من أصحابها والعاملين فيها حتى جاءتها الضربة القاضية في عام 1969 بقرار من حكومة البعث تسمح لوزير الإصلاح الزراعي من حرمان جميع أفراد مؤسسة أصفر ونجار وأعضاء مجلس إدارتها والشركات التابعة لها، من التملك ولا ما هو دون السقف المسموح به في قانون الإصلاح الزراعي، فتم نزع يدهم عن كامل الأراضي التي يملكونها والآليات والمعدات ومشروع الري بكامله وبيوتهم ومحال إقامتهم ومكاتبهم في رأس العين ومبروكة.

سنوات قليلة بعد هذه القرارات، وصارت سوريا بحاجة إلى استيراد القمح الذي ظلت تصدره إلى العالم طوال ألوف السنين.

 

المصدر: كتاب عائلة أصفر ونجار ـ تأليف الياس سعيد نجار