أستانا جديدة وشركاء الاضطرار

2019.07.22 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لم تضق أرض بسوري، ولم تكن على تلك الدرجة من البرودة حتى المعنوية، فضلاً عن الطقسية، كما كانت "أستانا" عاصمة "كازخستان"، وأحَدْ جمهوريات /الاتحاد السوفيتي/ سابقاً، والمرتبطة عضوياَ بـ/الاتحاد الروسي/ لاحقاً. ربما لذلك اختارها بوتين لتكون المقبرة المزركشة للحق السوري. هناك تم إجهاض أحد أهم بنود القرار الدولي 2254 وبيان جنيف في /وقف إطلاق النار/ في سوريا، وتحويله إلى ما تم الاصطلاح عليه بـ "خفض التصعيد". كان الشعور السائد أن الثماني والأربعين ساعة التي نمضيها هناك أقسى من ثمان وأربعين سنة؛ وكأنها تذكِّر بعام ثمانية وأربعين. كانت الخسارة حتمية، وكان هدف المشاركة التخفيف من منسوب الخسائر أمام المخرز الروسي؛ الذي أضاف لاحقاً إيران كـ "ضامن".

جولة إثر جولة، استمرت "أستانا" بالتعثر؛ وفي أوقات كانت ورقة نعوتها جاهزة. كابَرَ أصحابها؛ وادّعوا أنها الطريق إلى الحل

لم يكتف السيد بوتين بإدخال إيران كحام إضافي لمنظومة الاستبداد في دمشق، بل يزيد في الطنبور نغماً بإضافة سلطتين شريكتين لنظام دمشق؛ العراق ولبنان، ليكونا إلى جانبه في أستانا

في سوريا؛ وهي الأكثر عملية وإنتاجاً من "جنيف"؛ وكلما دعسوا اتفاق "خفض تصعيد"، تبعوه بآخر، إلى أن وصلوا إلى إدلب التي تحوّلت إلى مجمع للمنفيين داخلياً. خرجت إدلب من عباءة أستانا إلى اتفاق في "سوتشي". وحتى هذا، أراد بوتين تمزيقه، ولكن الليل لم يكن طوع بنان الحرامي.

بعد عشرة أيام، تُعْقَد الجولة 13 من أستانا. ولم يكتف السيد بوتين بإدخال إيران كحام إضافي لمنظومة الاستبداد في دمشق، بل يزيد في الطنبور نغماً بإضافة سلطتين شريكتين لنظام دمشق؛ العراق ولبنان، ليكونا إلى جانبه في أستانا. وكل ذلك لمزيد من محاصرة تركيا وبقايا الحق السوري.

هذه "الأستانا" لن تكون على هوى أصحابها، حتى ولو سادت مظاهر اجتماعاتها الفخامة وكِبَر "الهيصة"؛ فالتوتر الروسي - التركي على أشدّه رغم الأس 400. بنظر روسيا، تركيا لم تفعل شيئاً تجاه "النُصرة"، ولا تجاه المنطقة منزوعة السلاح؛ وهناك شبه مواجهة عسكرية، ولو بالوكالة. تنسى روسيا ربما أنها هي التي اختارت تلك المواجهة، وهي التي أرادت تجهيز نفسها للقاء القدس، ولقِمّة "أوساكا"؛ ببساطة، لأن أميركا تهمها أكثر من تركيا؛ وكان مهماً بالنسبة لها أن تذهب إلى هذين الاجتماعين وبيدها منجز على الأرض؛ واستلزم ذلك مواجهة مع تركيا. لم تحقق ما أرادت ميدانياً؛ وبفضل بعض من يلتقونها في أستانا؛ ومن هنا، جن جنون موسكو لأنها لم تحقق سيطرة على إدلب يعطي أفضلية للنظام كي تكون التسوية على مقاسهما. المفارقة أن موسكو لا تستشعر فقط الانتكاسة الميدانية، بل تتيقن أنه حتى "حميميم" في خطر.

لا تختلف الطبيعة الاضطرارية الابتزازية الانتهازية للعلاقة الروسية - التركية عن نظيرتها الروسية -الايرانية. واضح أن السيد بوتين جاهز لكل شيء مقابل علاقة حميمية مع إسرائيل وأميركا. ومن هنا كانت أول وأهم مدفوعاته لهما -في سبيل تلك العلاقة- العمل على خنق شريكته في القتل في سوريا. هذه العلاقة انتقلت من طور الشكوك والارتياب بينهما إلى الطور شبه المواجهاتي؛ وما إغلاق منفذ إيراني من العراق إلى سوريا، استجابة لطلب أميركي، إلا أول الغيث. وهنا كان الرد الإيراني بعدم دعم الفيلق الروسي الخامس في الشمال السوري، إضافة إلى شيء من الغزل بين إيران وتركيا. ولن يطمْئن إيران إرسال وفد روسي إلى طهران، ففي الوقت ذاته، قامت روسيا ببعض الإجراءات والترتيبات في القيادات الأمنية السورية تجعل ذراع إيران الأمنية في سوريا تدور في الفراغ.

تبقى علاقة السيد بوتين مع كل من أميركا وإسرائيل الأمر الأهم بالنسبة له. لا ينفك

تريد موسكو أن تحقق خرقاً، وتخرج بأي جنى سياسي من أربع سنوات دموية لها في سوريا. من أزمات الآخرين تريد أن تجترح منجزاً؛ والآخرون يدركون مأزقها

المسؤولون الروس عن التعبير عن الحرص على "أمن إسرائيل". مقابل ذلك يتم تجنيد روسيا في المساهمة بإخراج إيران من سوريا. وهنا تجد روسيا نفسها بين سندان الشراكة مع إيران بسفك دم السوريين، ومطرقة تلبية الرغبة الأمرو-إسرائيلية.

وفي العودة إلى أستانا 13، وفي ظل كل هذه المتناقضات والعلاقات الاضطرارية الانتهازية والابتزازية، تريد موسكو أن تحقق خرقاً، وتخرج بأي جنى سياسي من أربع سنوات دموية لها في سوريا. من أزمات الأخرين تريد أن تجترح منجزاً؛ والآخرون يدركون مأزقها. في أستانا ستعلن موسكو اتفاقاَ يكرس صمت السلاح في الشمال الغربي السوري على الوضع الميداني الراهن اضطراراً، وربما تفكّر بإعلان الاتفاق على "اللجنة الدستورية"، التي تشكل الموضوع الأسهل مقارنة بالقضايا الخلافية بين "ضامني" أستانا؛ ولكن إعلان كهذا لن يفيد روسيا، ولا يعبّر عن صدق وجدية تجاه العملية السياسية؛ لأن الأمر الطبيعي أن تقوم الأمم المتحدة بالإعلان عن ذلك، وفي مكان آخر.  ذلك امتحان رمزي؛ فهل تنجح به موسكو؟!

إذا استمرت روسيا باعتبار سوريا محمية لها، وإذا رأت أن حلالاً لها أن تقتل وتدمر تحت ذريعة حماية /سيادة ووحدة وسلامة/ سوريا، واستمرت باعتبار مَن يدافع عن نفسه إرهابياً، وأن احتلالها هو الوحيد المسموح به على الأرض السورية، وأنه كلما حدث استعصاء في أي أمر تعزي سببه لأميركا أو غيرها ممن هم ليسوا على هواها، وأن تتحدث ليل نهار عن عملية سياسية، وعن حل سياسي؛ ولا تفعل إلا القصف والتدمير؛ فهذا سيبقيها في عالم البهلوانية والتكتكة الدموية والبلطجة. ليس 13 أستانا كافية لإخراجها من هذه الحالة؛ ربما تحتاج إلى مئات الأستانات. لتعلم روسيا أن للآخرين خططهم وفعلهم؛ ولن تتمكن من شحن سوريا إلى أي مكان، كما تعودت أن تشحن رأس نظامها. ستجد نفسها تشحن ذاتها من سوريا عاجلاً أم آجلاً، إذا استمرت على هذا النهج.