أسئلة الوجود في بال السوريين

2019.08.28 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

غادر الكاتب الأفغاني عتيق رحيمي بلاده "أفغانستان" وهو في الثانية عشرة من عمره هاربًا من حرب طال زمنها وحصدت ليس فقط آلاف الأرواح من شعبها، بل حصدت الأمان والسلم الأهلي والاجتماعي وإمكانية النهوض من حمام الدم ومستنقع الموت، وحصدت أركان المجتمع المبنية عبر التاريخ فانهار وانهارت معه الحياة.

وصل إلى باريس يضمر في ذاكرته حكايات وقصصًا وأرشيفه الذاتي من الصور المحفورة في خلده، درس وحصل على الشهادات الأكاديمية الرفيعة وقدم أعمالاً إبداعية في السينما كمخرج وفي الأدب كتب الروايات التي لاقت صداها العالمي. لكنه منفي مهجّر بالقوة من بلاد أمعنت في عطالتها وأمعن الموت فيها.

يقدم في كتابه "أنشودة القلم"، الصادر مؤخرًا عن دار "مدارك" بترجمة المترجمة السورية "لينا بدر" ملحمة تتضافر فيها الكلمات مع الخطوط والأحرف لتشكل نسيجًا من الأسئلة الوجودية وصدى إجابات، تتشابك مع بعضها البعض لترسم لوحة بالكلمات والحروف التي شكلت جزءًا من السرد برسومها على طريقة الـ"الكاليمورفي" أو جمال البحث في خطوط اللغة العربية.

هذه المقدمة ليست لعرض الكتاب وما يقدم من نصوص شعرية نثرية فهو جدير بمطالعة خاصة، لكنها استدعاء وجداني لتجربة تلامس أعماق ملايين السوريين الذين غادروا موطنهم إلى منافيهم، وما لاقوه في تغريبتهم التي طالت وتطول، بالأخص أنهم اليوم باتوا البيضة التي يتقاذفها الجميع فوق قبانات السياسة.

يقول: مضت شهور وأنا جالس في صمت الكلمات أنتظر أن أكتب عن المنفى. لا شيء يحرك

المنفى لا يمكن الرهان عليه، كما يقول الرحالة نيكولا بوفيه: تظن نفسك ذاهبًا لتصنع رحلة، لكن هذه الرحلة سرعان ما تصنعك أو تقوّضك

ذهني، لا الصور، ولا اللوحات، ولا الموسيقى. فهل يمكن تخيل حجم الفجوة التي تكبر وتتمادى في أعماق نفس المخلوع من ماضيه إلى أماكن تفرض عليه نوع البدايات التي يعجز معها عن صناعة ماضٍ وصياغة تصور عن مستقبل أو وضع هدف أمامه؟

المنفى لا يمكن الرهان عليه، كما يقول الرحالة نيكولا بوفيه: تظن نفسك ذاهبًا لتصنع رحلة، لكن هذه الرحلة سرعان ما تصنعك أو تقوّضك. أما فيكتور هوغو فيقول: "المنفى نوع من الأرق الطويل". هذا الأرق هو ضريبة مفروضة على الجميع، على كل الذين يهجّرون بعيدًا عن أوطانهم وتاريخهم وأماكن ذكرياتهم، ضريبة يدفعونها كل بمفرده ولا تنقص قيمتها، ولكل واحد حكايته المختبئة في عتمة النفوس المتألمة.

لم تبخل وسائل الإعلام ولا كل وسائط الميديا في عرض الآلاف من القصص حول تجارب اللاجئين السوريين، التجارب التي انتهت بفشل قاتل وأخرى ومَضت كبرق في ليل شتوي عاصف. وكلها يختبئ في ثناياها الوجع السوري. كثيرة هي التجارب الفردية التي تؤكد قدرة السوري على الإبداع في كل المجالات، في المجالات الحرفية وفي المجالات العلمية وفي الفنون والأدب ومعظم أنواع النشاط البشري. تقول آخر إحصائية على سبيل المثال إن السوريين تصدروا مجموع المتقدمين لمعادلة شهاداتهم في الجامعات الألمانية في العام الأخير، كما كان لبعض الطلاب السوريين موقعهم في الدرجات الأولى في الشهادات العلمية. اطلعنا على بعض الحرفيين والمهرة الذين أبدعوا في مجالاتهم وأنجزوا مشروعهم الذي يحمل بصمتهم، بصمة الهوية السورية المنفتحة على ثقافات الأرض وروح العصر، واطلعنا في المقابل على العديد من القصص التراجيدية التي ألمت بأفراد وأسر في بلدان اللجوء، وعلى الأمراض النفسية التي فعّلتها تجربة الحرب واللجوء.

لا يمنح مكان اللجوء ما يحقق الكرامة حتى لو كانت قوانينه ودستوره تصونها أو تشكل بالنسبة لها فاتحة القوانين كلها، فالكرامة كما جاء في كتاب عتيق رحيمي كنصيحة من والده "الحياة يا بني هي أن تعيش حياتك، وفكرك، ومشاعرك، وجسدك... هذا ما يسمى بالكرامة الإنسانية، لكن هل بإمكان اللاجئ المحكوم بقوانين تنظم وجوده كوافد وغريب في بلاد غير بلاده أن يمتلك تلك المفاتيح للحياة التي تصون الكرامة؟ صحيح أنه قادم ومهجر ومطرود من بلاده بسبب انعدام أسباب الكرامة، بسبب هدرها وهتكها والاعتداء الدائم

صارت قضية اللجوء اليوم الطبق الأهم على موائد الساسة وأنظمة القوى الضالعة في مأساة السوريين

عليها منذ ولادته إلى أن أصبحت الحياة بلا كرامة هي النمط الطبيعي للعيش، لكن حتى في أرقى الدول من حيث الحقوق الإنسانية وحمايتها بسلطة الدستور، وبرغم توفر حاضنة شعبية تؤسسها ثقافة تراكمت في الوجدان العام بعد تجارب باهظة الأثمان، تبقى الكرامة حقًا منقوصًا بالنسبة إلى اللاجئ، خاصة في عصرنا الحالي بما يميزه من تنامي الخطاب العنصري والممارسات الناجمة عنه، وهذا جرح يعاني من ألمه الحاد السوريون في بلاد اللجوء القريبة والبعيدة على حدّ السواء.

صارت قضية اللجوء اليوم الطبق الأهم على موائد الساسة وأنظمة القوى الضالعة في مأساة السوريين، في الوقت الذي ما زال هناك مئات الآلاف من السوريين يطفرون في أرض بلادهم من مكان إلى آخر هائمين في البراري تحت سياط الشمس يموتون جوعًا وعطشًا في طريق البحث عن ظل شجرة يلوذون به هاربين من ساحات النيران، والعالم الذي ادعى وقوفه بجانب المظلومين والمقهورين مناصرًا لقضاياهم لم يقدم لهم أكثر من مسكنات خلبية بينما الصديد يتراكم تحت سطوح جروحهم التي أزمنت.

يبقى سؤال المصير بلا أجوبة إلى اليوم واقفًا كعمود من اللهيب في وجه السوريين، وليس في الأفق ما يجعل النفس تأمل أو تنتظر أو تلمح بارقة أمل في حل لمأساة القرن الواحد والعشرين، لكنها المأساة السورية الفريدة، مأساة السوريين المهملين المتروكين لمصائر مدروسة ومخطط لها، لا تصنعها الأقدار، إنما تصنعها إرادات الشر في العالم.

يقول عتيق رحيمي في الكتاب نفسه: " في يناير/ كانون الأول عام 2002 عدتُ إلى وطني لأجد أرضًا مسلوبة الكرامة تحت سياط جيش الظلمات الطالبان، أرضًا مرضوضة تتألم تحت أقدام الجيش السوفييتي الحمراء، أرضًا دمرتها الحرب الأهلية والحقد والانتقام.... على هذه الأرض لم أتعرف على نفسي، مفاتيحي الخيالية التي اختلقتها في المنفى لم تعد تفتح لي باب بيت طفولتي. هل غيروا الأقفال يا ترى؟

كم مؤلم أن يعود المهجّر إلى أماكن طفولته وذاكرته وماضيه، فلا يجد بيوت جيرانه ليستدل بها على بيته، على خزائنه السرية التي رصف فيها مواد أرشيفه في منفاه الأول، المنفى الذي حدده الكاتب في كتابه، خروجه من ماء الرحم بكل هشاشة جسده، فهل يمكن القول فعلاً إن الولادة "تعلّمنا أن الرحيل عن مسكننا الأول هو أولاً كي لا نموت؟"

هو قدر السوري، أن يعاند الموت في أقسى تغريبة يدونها التاريخ الحديث، لكن السؤال المقلق: هل سيفقد في تغريبته كل الدلائل على الانتماء؟