"أزمة الإسلام" كما رآها برنارد لويس

2020.05.26 | 00:07 دمشق

brnard_lwys.jpg
+A
حجم الخط
-A

مرّت قبل أيام الذكرى الثانية لرحيل المستشرق البريطاني برنارد لويس (1916-2018)، ولويس الذي تحوّل بانتقاله من بريطانيا إلى أميركا من باحث أكاديمي إلى نجم إعلامي، ثم إلى مُنظّر للمحافظين الجُدُد قريبٍ من صُنّاع القرار في إدارة بوش؛ عُرفَتْ عنه دعوتُه إلى تقسيم الدول العربية منذ عام 1978 عن طريق إشعال حروب طائفية وعرقية فيها، ثم تحوّل كتابه "ما الخطأ" إلى دستورٍ للمحافظين الجُدُد واليمين المتطرّف بعد هجمات 11/9.

في عام 1990 نشر لويس مقاله الشهير "جذور الغضب الإسلامي"، وتحدث فيه عن صراع إسلامي-مسيحي مستمرّ منذ نشوء الإسلام حتى يومنا هذا. ومن فكرة هذا المقال، استوحى صامويل هنتنغتون نظريته حول "صدام الحضارات". ما زال طرحُ لويس ذاك يتكرر على ألسنة كثير من المفكرين والسياسيين في العالم العربي، وعلى رأسهم الإسلاميُّون والجهاديُّون، وربما لا تدرك هذه الأطراف خطورة تحويل الصراعات السياسية إلى حروب دينية، فالصراع السياسي يمكن أن ينتهي بحلّ سياسي، أما الحرب الدينية فتعني توريث الصراع جيلاً بعد جيلٍ إلى ما لا نهاية، ويعني فتح أوسع الأبواب للتكفير والعنصرية الـمُتبادَلَين.

وفي كتابه "أين الخطأ" (2002)، رأى لويس أن العالم الإسلامي يرفض الحضارة الغربية لا بسبب ما تفعله، بل بسبب ماهيّتها، وبسبب المبادئ والقيم التي تمارسها وتنادي بها. ويضيف أنّ الأصوليين الإسلاميين هم من يحتاجون إلى عدوّ، وليس الغربُ هو الذي اخترع العدوّ الإسلامي كبديلٍ عن الشيوعي. يفسّر لويس عداءَ العرب والمسلمين للغرب -لا سيّما أميركا- تفسيراً سيكولوجياً، فهم يشعرون بتخلُّفهم ويعترفون بتأخُّرهم عن الغرب، ثم يطرحون على أنفسهم سؤال: "أين الخطأ؟" وبدلاً من إلقاء اللَّوم على أنفسهم فإنهم يلقونه على الآخرين، فذلك أسهلُ وأرضى للنفس. ونعقّبُ على كلام لويس بأنه من الصحيح القولُ إنّ الخطاب العربي والإسلامي حافلٌ بإلقاء اللوم على الآخرين وتبرئة الذات، وغارقٌ في نظريات المؤامرة.. لكنّ من الصحيح أيضاً أنْ نتذكّر الأسباب المادية والموضوعية التي شكّلتْ ذاك العداء، ومنها: الاستعمار- دعمُ الغرب للديكتاتوريّات والرجعيّات العربية- دعمُ الغرب لإسرائيل عند نشأتها وفي حروبها مع العرب.. ثم حربا أميركا في أفغانستان والعراق، وصولاً إلى إدارة الحروب في ليبيا وسوريا واليمن بصورةٍ انتهازية لا إنسانيّة.

تتميز كتابات لويس باطّلاعه الواسع على التاريخ العربي والتزامه بخطّ "موضوعي" و"حيادي" في الظاهر بينما يبثُّ أفكاره المنحازة دينياً وعرقياً كمَنْ يبثُّ السُّمَّ في العسل

ثم نأتي إلى كتاب "أزمة الإسلام" الذي كتبه بعد 11 أيلول، وهو من أشهر كتبه وأكثرها تأثيراً في الغرب والشرق. تتميز كتابات لويس باطّلاعه الواسع على التاريخ العربي، والتزامه بخطّ "موضوعي" و"حيادي" في الظاهر، بينما يبثُّ أفكاره المنحازة دينياً وعرقياً كمَنْ يبثُّ السُّمَّ في العسل. أشير إلى بعض طروحات هذا الكتاب، وأعقّبُ عليها بعُجالة:

1) يقول لويس إنّ الإسلام نشَأَ ثيوقراطياً، أما المسيحية فقد نشأتْ عَلْمانية، مُستشهداً بقول المسيح: "أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله". في الحقيقة إن جميع الدول في القرون الوسطى كانت ثيوقراطية، وكان الحاكم يستمد شرعيته باعتباره ممثلاً لله على الأرض. أما اختلاف المسيحية في ذلك عند نشأتها، فيعود إلى عدم وجود دولة مسيحية آنذاك، وليس إلى كونها ديناً مختلفاً عن سائر الأديان. ثمّ إنّ تغيُّر مفهوم الدولة ووظيفتها وعلاقاتها في العصر الحديث هو ما أنتجَ مبدأ العلمانية، وليست النصوص الدينية. ولو كان مَرَدُّ العَلْمانية إلى تلك الآية الإنجيلية -كما يقول لويس وبعضُ الإسلاميّين-؛ فلماذا لم تظهر العلمانية في القرون الوسطى؟ ألم تكنْ أوروبا مسيحية آنذاك؟!

كما يمكنني بالقياس ذاته أنْ أستشهدَ بحديث "تأبير النخل"، وأستنتج منه أن الإسلام قد فصلَ بين الشؤون الدينية والدنيوية، وأنه وضعَ حجرَ الأساس لمفهوم العلمانية.

2) يقول لويس إنّ الإسلام نشأ جهادياً، أما الحروب الدينية المسيحية (الحروب الصليبية) فلم تظهر إلا بعد قرون طويلة، وهي بذلك انحرافٌ عن الإيمان القويم وتعاليم الأناجيل. في الحقيقة لم تظهر الحرب الدينية عند نشوء المسيحية بسبب عدم وجود دولة للمسيحيين (مثلُ حال محمّد في مكّة). لكنْ منذ أنْ ترأس الإمبراطور قسطنطين الأول مجمع نيقية (325 م)، بدأت الحرب الدينية المسيحية على الهرطقات. كما سبقَ للدولتين البيزنطية والفارسية أنْ خاضتا حروباً طويلةً ورهيبةً من أجل استعادة الصليب الذي يُعتَقد أن المسيح قد صُلب عليه، وذلك قبيل بعثة محمّد.

3) يقول لويس إن نظرية الاغتيال السياسي قديمة قدم الإسلام، فقد مات ثلاثة من الخلفاء الراشدين اغتيالاً (كلام أدونيس نفسه). في الحقيقة إن الاغتيال السياسي قديمٌ قدمَ السياسة والصراع على السلطة، أي هو ظاهرة بشرية وليس ظاهرة إسلامية. ومثلما حفلَ تاريخُ المسلمين بالصراع على السلطة وما يرافقه من حروبٍ ونزاعاتٍ ومكائد ودسائس... فإنك تجدُ الظاهرة ذاتها عند الرومان والبيزنطيين والفرنجة، وما زالتْ مستمرة إلى يومنا هذا بأساليب حديثة.

4) من أجل تأصيل ظاهرة الإرهاب وربطها بالإسلام، يعود لويس إلى فرقة الحشّاشين، ويعطيهم ذلك الدور الكبير والأثر العميق في الفكر العربي والإسلامي. ثمّ يعتبرُ الفدائيّين الفلسطينيين -الذين يصنّفهم كإرهابيّين- امتداداً تاريخياً وفكرياً لفرقة الحشّاشين، فهم يتّبعون الأسلوبَ والتكتيكات ذاتها. ثم يدعّمُ حجّته بالألاعيب اللغوية كعادته، فيقول إنّ الحشاشين كانوا يسمّون أنفسهم "الفداويّة"، والفلسطينيّون يسمُّون أنفسهم "الفدائية" أيضاً، وهذا دليلٌ على اتّباعهم النهج ذاته. وإذا ما أردنا استخدامَ ألاعيب لويس اللغوية ذاتها، نذكّرُه أنّ المسيحيين العرب يلقّبون المسيح بـ "الفادي"، وأنّ عقيدة "الفداء" ركنٌ أساسي في المسيحية. ويمكننا -على طريقة لويس- أن نرُدَّ فرقة الحشّاشين والفدائيين الفلسطينيين إلى اتّباع نهج المسيح وسُنّته، طالما أنّ الاشتباك اللفظي هو الدليل.

وأعتقدُ أن ظهورَ العمل الفدائي الفلسطيني لا يعودُ إلى الاقتداء بفرقة الحشاشين في التاريخ الإسلامي، كما ذهبَ لويس. بل يعود إلى وجود كيانٍ صهيوني احتلَّ أرض فلسطين وهجّرَ أهلها، وهذا ما لا يقوله لويس أبداً.

5) بعد ذلك يقوم لويس بالمساواة الكاملة بين الفدائيين الفلسطينيين وتنظيم القاعدة، ويرُدُّ الاثنين إلى فرقة الحشاشين ذاتها. ثم يلاحظُ أن الحشاشين لم يقوموا بعمليّات انتحارية، بينما قام الفدائيون الفلسطينيون وعناصر القاعدة بعمليات انتحارية. ويضيفُ أنّ الإسلام يحرّم الانتحار، فيحاول تفسير هذه المعضلة من خلال البحث عن أحاديث نبوية تبرّرُ للمقاتل قتْلَ نفسه في المعركة. وهنا تكمن "أزمة برنارد لويس" لا "أزمة الإسلام"، فالمسألة لا تتعلق بأحاديث نبويّة أو فتاوى فقهيّة، لأنّ ظهور العمليات الانتحارية في القرن العشرين وعدم ظهورها في القرون السابقة، يعود برمّته إلى تطوُّر وسائل النقل وصناعة المتفجّرات، فما يمكن القيامُ به اليوم لم يكن ممكناً في زمن الحشّاشين. ونسأل مثلاً: هل يمكن لطيّاري الكاميكازي أن يقوموا بعملياتهم لولا اختراع الطائرة الحربية؟ هل يمكن لـ جول جمّال أن يقوم بعمليّته لولا الزورق الحربي؟ ولـ سناء محيدلي لولا السيّارة والمتفجّرات؟! إذاً، الموضوع يتعلّق بتطوّر الصناعات الحديثة، ولا يتعلّق بتحوُّل فقهي في المعتقد الإسلامي كما يُضيّع لويس وقته وقرّاءه في البحث عنه.

ثمّ ألم يلاحظ لويس الفروقات الأيديولوجية الواسعة بين الحشّاشين (الإسماعيليّة النزارية)، والفدائيين الفلسطينيين (يساريّين)، وتنظيم القاعدة (السلفيّة الجهادية)؟!

كلمات مفتاحية