أدونيس والعنف والإسلام (2)

2019.12.22 | 20:15 دمشق

adwnys.jpg
+A
حجم الخط
-A

ركّزتُ في القسم الأول من مراجعتي لكتاب أدونيس "العنف والإسلام" على توضيح مفهوميّ الدين والإسلام لديه، فهما يختلفان عمّا يُشاع عنه من علمانية ولا دينية. واليوم أعرض آراءه حول الربيع العربي والمرأة في الإسلام، مذكّراً بأبرز سمات هذا الفكر كاللاتاريخية والتعميم.

الربيع العربي:

لا يرى أدونيس في الربيع العربي من تونس إلى العراق سوى داعش، يقول: "ما يحدث في البلدان العربية منذ 2011 هو نوع من العودة إلى ما قبل البشرية، إلى عصر التوحُّش. إنهم يقتلون مَنْ ليسُوا من السُنّة، ومَنْ يُفكّرون بشكلٍ مختلف" (ص157). ولكي نسير مع آرائه منذ البداية يقول: "هذه ليستْ ثورات، فبدلاً من أن تُعارض الطغيان، صارت هي طغياناً آخر" (ص3)، ويضيف "إنهم يحلمون بتغيير أشكال السلطة الحالية دون إعطاء أهمية كافية لمسائل حرية المرأة وحرية الفرد" (ص4)، ويرى أنّ ما يحدث باسم الثورة يُثبتُ أنّ "الغالبية العظمى من المجتمع العربي ما زالت محكومة بالجهل والأميّة والظلاميّة الدينية" (ص5). أما الثورة الوحيدة التي يعترف بها أدونيس من بين جميع الثورات في التاريخ العربي؛ فهي ثورة القرامطة التي يمتدح ما كان فيها من "مساواة" و"اشتراكية" و"حريات فردية" حسب رأيه (ص7). ويتّفق أدونيس مع نظرية المؤامرة على الأنظمة بقوله: "الربيع العربي لا علاقة له بالثورة أو بتحرير الشعب، إنه مريعٌ وأكثرُ دمويةً من جميع الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي". ويضيف أنّ الربيع العربي مموّلٌ من قطر والسعودية، وأنه يخدم أهدافهما ومصالحهما، و"النظام الذي يُبدي أي معارضة لهما يتمُّ تدميره" (ص12). ثم يطمئن أدونيس العالَم بما توصّل إليه: "نتيجةُ الربيع العربي هي الفشل الكامل" (ص13). وبما أنه لا يميّز بين الربيع العربي وداعش إطلاقاً، يقول: "الدولةُ الإسلامية والثوّارُ العربُ المعاصرون يزيدون من إخضاع المرأة ومن لذّة الرجل" (ص84).

بالعموم، فإن آراء أدونيس لا تخرج من دائرة الأصوليين الذين يرون العالَم بأكمله من منظور الدين فقط. فعندما يخرج الناس في ثورات ضد الأنظمة العربية، لا يكون ذلك لأن لديهم مطالب وحقوق وحريات مسلوبة، ولا لأن الأنظمة مارستْ شتّى أنواع القمع والاستبداد والاستغلال في حقّهم، بل يكون ذلك بسبب الإسلام! فالإسلام -كما يكرّر أدونيس- قد نشأ مرتبطاً بالسلطة وبالصراع على السلطة، إنه دينُ السلطة، ولذلك تخرج الشعوب العربية من أجل تغيير السلطة دون الاهتمام بتغيير المجتمع، ومن أجل إسقاط النظام مهما كلّف الثمن (ص56).

وعندما لا تخرج الشعوب على الأنظمة، يكون ذلك بسبب الإسلام أيضاً، فالإسلام يعلّم التبعيّة والخضوع والعبودية (ص55). ولأنّ الإسلام يعتبرُ الحياةَ الدنيا محطّة تافهة، ويُعطي الأهمية الكبرى للآخرة، فـ "العربي لا يعيش على الأرض أو في التاريخ، إنه يعيش في السماوات" (ص75). وهكذا؛ فكأنّ الإسلام هو المصباح السحري الذي يستخرجُ منه أدونيس كافة الأجوبة لكافة الأسئلة، فيُفسّر به الظاهرةَ ونقيضَها، دون أن يشعر بكميّة التناقضات التي يقع فيها بين سطرٍ وآخر.

المرأة في الإسلام:

سبقَ لعلماء الأنثروبولوجيا منذ القرن التاسع عشر أنْ درسُوا ما يُعرف بـ "الانقلاب الأبوي"، أي التحوُّل من عصر سيادة المرأة إلى عصر سيادة الرجل، وردُّوه إلى أسباب تتعلّق باكتشاف الزراعة وظهور أهميّة الثور في الحراثة، ثم ترويض الحصان واستخدامه في الغزو والسبي... إلخ. وكما هو معلوم؛ فقد بدأ عصر سيادة الرجل (النظام الأبوي) قبل بضعة آلافٍ من السنوات، وشملَ بقاع الأرض جميعها. أما أدونيس فلا يرى شيئاً من ذلك، فهو يتحدث عن المجتمع الأبويّ (الذكوري) وكأنه من اختراع الإسلام ونصوصه، لا كحقبةٍ طويلة من التاريخ البشري. يقول: "الإسلام دمّر الأنوثة وحوّلها إلى مُلكية، كشيءٍ يمكن تملُّكه، فالمرأة ما عادت تنتمي إلى نفسها بل أصبحت شيئاً للرجل" (ص69)، ويقول: "الإسلام اختصرَ المرأة في أعضائها الجنسية، إنها مجرّد فَرْج" (ص71). وهكذا؛ فإن أدونيس لا يأخذ بالعلم وكلام العلماء، طالما أن لديه جواباً جاهزاً. وبينما أضاعتْ أعلامُ الفكر النسويّ أعمارهنَّ في التحليل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للنظام الأبوي، فإن أدونيس يردُّ كل شيء إلى الإسلام وبكل ثقة: "الإسلام جعل علاقة الرجل والمرأة علاقةَ سيّدٍ بعبد" (ص71).

يقول أدونيس إنّ المرأة المسلمة ممنوعة من العمل لأنها مُلزمة بالبقاء في البيت من أجل قضاء حاجة الرجل

وفي سياق الموضوع ذاته، يقول أدونيس إنّ المرأة المسلمة ممنوعة من العمل لأنها مُلزمة بالبقاء في البيت من أجل قضاء حاجة الرجل. يقول: "المرأة المسلمة لا ينبغي أنْ تخرج، بل ينبغي أن تمكث في المنزل لكي تكون مُتاحةً لزوجها إذا ما أراد أن يقضي وطره" (ص74). ويؤكد استمرارية هذه الحال حتى اليوم: "لم يحدثْ أي تغيير في وضع المرأة المسلمة عبر التاريخ" (ص78). ولا يحتاج الردُّ على هذه المزاعم أكثر من إلقاء نظرة سريعة إلى المدينة السورية في مطلع القرن العشرين، ونظرة أُخرى في مطلع القرن الواحد والعشرين، لنجد في الأولى أن غالبية النساء كنَّ يجلسن في البيت ولا يذهبنَ إلى عمل (وهذا حالُ الأوروبيّات آنذاك)، أما اليوم فنجد نسبةً أعلى بكثير من النساء في الوظائف العامة والخاصة. وإذا نظرنا إلى الريف؛ نجد أن المرأة كانت دوماً تعمل إلى جانب الرجل في الزراعة وتربية الحيوان، ليس لأن الدين سمحَ لها أو منعَها، بل لأن ظروف الحياة في الريف تفرض عليها العمل إلى جانب الرجل.

تتّسم معظم آراء أدونيس حول المرأة في الإسلام باللاتاريخية، فهو ينتقد فقهاء من القرن التاسع لأنهم لم يتحدثوا عن حقوق المرأة التي ظهرت في القرن العشرين. وهو لا يرى سوى الدين محرّكاً للعالَم ومُفسّراً له، يقول: "أكبرُ عدو للمرأة ليس الرجل، بل هو الدين" (ص91). وحتى أثناء كلامه عن الأدب الجنسي في التراث العربي، فهو يعتبره أدباً غايتُه إخضاع المرأة وزيادة متعة الرجل، وسببُ ظهوره هو الإسلام طبعاً. يقول: "الأدب الجنسي لإرضاء الرجل، فالمرأة في الإسلام شيءٌ لإشباع الرجل، إنها حقلٌ يُزرَع" (ص80 و82). وإذا افترضنا جدلاً عدمَ وجود أدبٍ جنسي في تراثنا، فإن أدونيس كان ليفسّر ذلك بالإسلام -أيضاً- الذي يُعادي الجسد ويمحق الحريات الفردية، ويدعّم رأيه بعبارة طنّانة مثل: "الإنسان العربي ما زال كائناً دينياً بشكلٍ جوهري" (ص77).

لاتاريخيّة وتعميم:

لا يعترف أدونيس بوجود الزمن أو بتأثيره، فهو يُعيب على الإسلام غيابَ مفهوم المواطنة، وغيابَ النزعة الفردانية التي ظهرتْ في القرن العشرين بتأثيرٍ من الوجودية والفوضوية. يقول مثلاً: "الإسلام لا يعترف بفكرة الذات أو الفرد الحرّ" (ص58)، أو: "الإسلام لا يأخذ الإنسان بعين الاعتبار" (ص96). ثم يعقد مقارنةً بين الحريّات الفردية عند كلّ من الإمام الشافعي والفيلسوف سارتر (ص167)، فيذمُّ تخلُّف الأول ويمتدح تحضُّر الثاني، دون أن يشير ولا بكلمةٍ واحدة إلى أحدَ عشرَ قرناً تفصل بين الرجُلين!

ويمتلئ الكتاب بالأحكام التعميمية التي يطلقها كلٌّ من أدونيس ومُحاوِرَته على المسلمين و/أو العرب. كقوله: "يفتقد العقلُ المسلم إلى بُعدين؛ البُعد الجمالي والبعد العلمي" (ص63)، أو: "في لاوعي المسلم، المرأة ليست إنساناً، بل بضاعة تُباع وتُشترى" (ص75)، ويستشهد على كلامه الأخير بجرائم لداعش مثل خطف النساء وبيعهن، مُعمِّماً بذلك سلوكَ مجموعة من المجرمين على مليار ونصف المليار مسلم.

كلمات مفتاحية