icon
التغطية الحية

 أحاديث ثقافية: من أنطون مقدسي إلى مها قنوت

2020.11.20 | 13:30 دمشق

1311704_1519141574.jpg
دار الأوبرا في دمشق ـ إنترنت
+A
حجم الخط
-A

نفيت عن نفسي، في حديث سابق، كلَّ أنواع الغرور، وهذا ليس تواضعاً، ولكنني، بصراحة، لا أمتلك منجزات على صعيد الإبداع تعطي إصابتي بالغرور شيئاً من المشروعية! وإن كنت سأتحدث هنا عن نفسي، فبصفتي واحداً من الأشخاص الذين وُجدوا في الوسط الثقافي السوري منذ مطلع الثمانينيات، عارفاً بالكثير من أحداثه وخفاياه.

في سنة 1989 صدرت مجموعتي القصصية التي تحمل عنوان "عودة قاسم ناصيف الحق" عن وزارة الثقافة، 120 صفحة، وكنت قد أصدرت، قبل سنتين، مجموعتي القصصية الأولى "حكى لي الأخرس" عن دار الأهالي التي كان يديرها المرحوم حسين العودات، 64 صفحة، وهكذا صار عندي، يومئذ، كتابان أدبيان مطبوعان.

في تلك الأيام؛ كانت طباعة كتاب أول لأديب جديد أمراً عسيراً، فالجهتان الرسميتان اللتان يفترض بهما تشجيع الأدباء، أعني وزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب، كانتا تعانيان من ضعف الإمكانيات، إضافة إلى أزمة الورق التي كانت مستفحلة، وقد زعم إعلام النظام أن سببها الحصار الاقتصادي المفروض على سوريا، وهناك أيضاً الروتين الإداري الذي ينتج عنه بطء شديد في التنفيذ، بدليل أن مجموعتي "عودة قاسم" قد صدرت عن الوزارة بعد أربع سنوات من الموافقة عليها، وأما المجموعة الأولى فأصدرتها دار الأهالي خلال شهر واحد من استلامها..

كان للكتب التي تُصدرها وزارة الثقافة أهمية خاصة، لأن رئيس دائرة التأليف والترجمة، الأستاذ أنطون مقدسي، كان حريصاً على إصدار ما هو متميز في مختلف ميادين الكتب التاريخية والسياسية والفلسفية والأدبية، و"مقدسي" لم يكن بقادر عن تحقيق ذلك، حقيقة، لولا وجودُ محمد كامل الخطيب، الأديب، الباحث، المؤرخ التنويري في صفه، وقد تولى محمد كامل طباعة سلاسل أدبية وفكرية وسياسية متميزة، أهمها بلا شك، كتب عصر النهضة، والمؤلفات الخاصة بالرجال الذين ساهموا في صناعة تاريخ سوريا الحديث، كعبد الرحمن الشهبندر، وأحمد قدري، ومحمد كردعلي، سواء ما كَتَبوا، وما كُتب عنهم، ومذكراتهم الشخصية، وتوفيرها للقراء بسعر رخيص.

اقرأ أيضا: "جامعو الكتب".. عن مكتبة سرية في خضم الحرب السورية

أنطون مقدسي (1914- 2005)، شخصية وطنية سورية فذة، يحمل شهادتين جامعيتين، الأولى في الفلسفة من جامعة "مونبلييه" الفرنسية، والثانية في الحقوق من بيروت، حصل في سنة 2001 على جائزة الأمير كلاوس الهولندية، وفي سنة 2003 منحته وزارة الثقافة الفرنسية جائزة "عامل" في حقل الإبداع الأدبي والفكري من أجل نشر الثقافة في فرنسا والعالم. وكان رجلاً ملتزماً مع فكره وأخلاقه، بدليل أنه بقي يداوم في وزارة الثقافة دون انقطاع على الرغم من الآلام في رقبته، ويزور المعارض الفنية التي تقام في مدينة دمشق، إذ كان من هواياته النقد التشكيلي، إضافة إلى انشغالاته في التأليف الفلسفي، وجدير بالذكر أنه مساهم في وضع منهاج مادة الفلسفة لطلاب الثالث الثانوي الأدبي.

كان أنطون مقدسي من أوائل المثقفين السوريين الذين انتبهوا لخطورة المرحلة الفاصلة بين حكم حافظ الأسد وحكم وريثه، وقد بادر إلى كتابة رسالة بالغة الأهمية إلى بشار الأسد، لم يكن نشرُها في الصحف السورية ممكناً بالطبع، فأرسلها إلى صحيفة الحياة اللندنية، ونشرت بعد أداء بشار القسم، شجعه فيها على ما ورد في خطابه بخصوص احترام الرأي الآخر، وترجيح وجهة نظر الدولة على وجهة نظر الزعامة، وأكد له أن إجراءات من قبيل إلغاء اللافتات، ومنع المسيرات، وإغلاق المضافات، جيدة وضرورية، فالمهم هو الانتقال من البداوة والعشائرية إلى حكم القانون، ومن مفهوم الرعية إلى مفهوم المواطنة.. وتحدث عن الشعب الغائب ذي الإرادة المشلولة الذي لم يعد لديه هَمّ سوى العمل ليلاً نهاراً كي يضمن قوت أولاده من جهة، ويقدم ما يُطلب منه من مسيرات وهتافات من جهة أخرى.

ملاحظة: على ذكر "الرعية"، لا ننسى أن إعلام نظام الأسد كان يسمي الاستفتاء على حافظ الأسد "بيعة"، وكل سبع سنوات كانوا يحتفلون بـ تجديد البيعة له.. وثمة نكتة عن بائع بندورة اعتقلوه لأنه كان ينادي قائلاً: آخر بيعة يا بندورة! .

بعد مدة قصيرة من تقديم مخطوط المجموعة القصصية "عودة قاسم" إلى ديوان الوزارة وصلتني منهم رسالة تتضمن قراراً باقتنائها، وطباعتها، وأن المطلوب مني كتابة تنازل عن حقوق الطباعة لمدة خمس سنوات، ويتضمن أحد بنود القرار صرف مبلغ 1100 ليرة سورية (ما يعادل 200 دولار تقريباً)، لقاء حقوق التأليف. وفي أول سفرة إلى دمشق مررت بوزارة الثقافة، وتوجهت إلى مكتب المحاسبة، فأخبرني الموظف أن الأستاذ أنطون مقدسي ترك لي خبراً بأن أزوره في مكتبه. ذهبت إليه، فاستقبلني ببشاشة، وضيفني قهوة، وشكرني على تقديم كتابي للوزارة، وقال إنني "موهوب".

"عرفتُ لاحقاً أن هذا الكلام ليس خاصاً بي، فالأستاذ أنطون يقوله لكل من توافق الوزارة على طباعة كتاب أول له، ومع ذلك سرني استقباله إيايَ، وقوله لي إنني "موهوب!".

كان نظام حافظ الأسد يفاجئنا، بين الحين والآخر، بمشهدية إعلامية مبهرة.. منها أننا فتحنا التلفزيون، في إحدى الأماسي، لنشاهد مهرجاناً خطابياً يحضره حافظ الأسد. وقد درجت العادة أن يؤتى بـ "نَظَّام شعري" يلقي على جمهور الحاضرين ما يسمى زوراً "قصيدة شعرية" مئوية (من فئة الـ 100 بيت) فترى النَظَّامَ يشرق في مديح حافظ الأسد ويغرب، وتكون الأجهزة الأمنية قد انتقت جمهور الحاضرين من ذوي الأكف المسنونة، وعضلات اليدين القوية، فيتناغم هؤلاء مع النَظّام بإطلاق موجة من التصفيق الهائل، تتخلله مداخلات شعرية (نظمية) من بعض الحضور.

اقرأ أيضا: عزمي بشارة.. الشعبوية وأزمة الديمقراطيات الليبرالية المعاصرة

وكنا قد اعتدنا، في المهرجانات السابقة على قيام محمد مهدي الجواهري، أو نجيب جمال الدين، أو صابر فلحوط، أو نجم الدين الصالح، بدور النَظَّام، ولكننا، في ذلك اليوم، فوجئنا بصبية جميلة، وأنيقة، متمكنة من اللغة العربية ومن صناعة النظم وإلقائه، اسمها "مها قنوت" ألقت مئوية شعرية (نظمية) جعلت فيها حافظ الأسد يتجاوز في مكانته الشخصيات المقدسة لدى أتباع الديانات السماوية الثلاث، ونحن، المواطنين المشاهدين، من دهشتنا وذهولنا، استيقظنا في صباح اليوم التالي وبدأنا نبحث عن أصل هذه السيدة الصناجة، وفصلها، فعرفنا أنها تعمل في الاتحاد النسائي، ووصلت، في الوقت ذاته لعضوية مجلس التصفيق والدبكة.. وعلى إثر تلك النظيمة المئوية تولت، في الحكومة التي شكلها محمد مصطفى ميرو في أوائل شهر آذار 2000، حقيبة وزارة الثقافة.. وبعد أشهر قليلة تمت عملية التوريث (التي اعتبرها الدكتور صادق جلال العظم – محقاً - أكبرَ إهانة توجه للشعب السوري)، ولا شك أن مها قنوت استاءت كثيراً من الرسالة المهمة التي وجهها أنطون مقدسي للوريث، ووجدت أن من المناسب، والضروري، إبعاده عن الوزارة، ولم يكن ذلك ممكناً بقرار تعسفي مفاجئ، فطلبت من الأستاذ أنطون أن يتوقف عن إصدار الأعمال الثقافية والفكرية والسياسية، والتفرغ لترجمة خطابات حافظ الأسد إلى اللغات الحية وإصدارها!

وبهذا تكون قد نجحت في إبعاد هذه الشخصية المهمة عن وزارة الثقافة التي كانت تشبه "الدولة السورية"، بينما تنتمي هي وأمثالها إلى النظام الاستبدادي الوراثي المافيوي.