نحن من السويداء.. والسويداء منا

2023.08.23 | 06:09 دمشق

آخر تحديث: 23.08.2023 | 06:09 دمشق

نحن من السويداء.. والسويداء منا
+A
حجم الخط
-A

تعود مدينة السويداء التي لم تنقطع عن الانخراط في الثورة السورية مند بدايتها الأولى للتظاهر والعصيان المدني ضد نظام بشار الأسد، بعدما استفحل الظلم والتجويع الذي يمارسه دون تقديم أيّة حلول من شأنها إقناع الناس وتهدئتهم، بل ما يقوم به الأسد هو الاستخفاف وتجاهل مطالب الناس انطلاقاً من إدراكه بأنّ المجازر التي ارتكبها بحق السوريين كفيلة بأن تمنعهم من الإقدام على خطوة العصيان من جديد، وكما في كل مرة على مدار عقود حكم منظومة الأسد المستبدة لسوريا، يخطئ الأسد في حساباته ومراهنته على مملكة الخوف والترهيب الطائفي والتلويح بعصا داعش التي لطالما يستخدمها ضد المكونات السورية المناهضة له كما في حالة السويداء.
هذه المرّة يترافق الحراك المدني مع توسع رقعته وانطلاق حركات مدنية شبابية في مناطق النظام تتبنى خطاباً وطنياً واستطاعت الوصول لعمق مناطق النظام وخاصةً أنّها تنشط هناك، حيث نشرت حركة "١٠ آب" العديد من الملصقات المطالبة بالتغيير واستعادة الدولة السورية من نظام الأسد وريث الدولة من الفرنسيين ومن ثم الانقلابيين البعثيين. الملفت أنّ الأوضاع الاقتصادية في مناطق نظام الأسد لم تتحسن رغم التواصل التقني العربي بل على العكس تستمر موجة فقدان العملة السورية لقيمتها بشكل متسارع ويومي هذا إن لم يكن دقيقة بدقيقة.

مناطق المعارضة السورية دخلت ضمن حيز مقارنات السوريين؛ حيث تشهد تحسناً من الناحية الخدمية والحوكمية مقارنة بمناطق الأسد ولو كان هذا التحسن ما دون المأمول لكنه يبقى أفضل حالاً من مناطق يحتلها نظام الأسد.

سبب ذلك سخطاً كبيراً ضد الأسد وتحميله المسؤولية الأساسية عن سوء حالة مناطقه، على عكس مناطق المعارضة السورية دخلت ضمن حيز مقارنات الناس؛ حيث تشهد تحسناً من الناحية الخدمية والحوكمية مقارنة بمناطق الأسد ولو كان هذا التحسن ما دون المأمول لكنه يبقى أفضل حالاً من مناطق يحتلها نظام الأسد، وفي الحقيقة إن المتغير المهم ضمن هذا الإطار بدء دخول المدنيين في مناطق الأسد في مقارنات مع مناطق المعارضة خاصةً بشأن تحسن البنية التحتية في شمال غرب سوريا. كما ترافق العصيان في السويداء مع آخر كبير في مدينة درعا السورية مهد الثورة السورية، إذ لا يحمل حراك درعا فقط أهمية سياسية أو شعبية بل رمزية كبيرة مرتبطة بعصب الثورة السورية وفشل الأسد في إحكام السيطرة على المدينة والقضاء على الحراك المدني والثورة.
وضمن تلك الخارطة يخرج جنوب سوريا عن سيطرة نظام الأسد بشكل شبه كامل، عشرات نقاط التظاهر، ما عدا قطع الطرق وإغلاق "المؤسسات" الحكومية ومنعها من العودة للعمل قبل تحقيق مطالب الناس، ولم يكن خروج الناس في الجنوب بدون وجود رؤية واضحة فهناك إصرار وإشارة واضحة لضرورة تطبيق القرار الأممي ٢٢٥٤ والانتقال التدريجي لمرحلة انتقالية جديدة في سوريا. فحمل الحراك أهمية كبيرة من نفي الهوية الطائفية للثورة السورية، وإعادة تلاحم القوى الوطنية في سوريا بهدف الانتقال لدولة المواطنة وقد تجسد ذلك بأبهى صوره عندما هتف المتظاهرون في السويداء لكل المدن السورية بما فيها مدينة إدلب التي تسيطر عليها المعارضة السورية، كما قامت إدلب بالتضامن مع السويداء وتأييد الحراك المدني ضمن رؤية وطنية تعبّر عن غاية الشعب السوري.
وكما تعالت الأصوات المؤيدة للحراك، خرجت أخرى رافضة له واصفةً إياه بأنه "ثورة جياع" ولا يحمل عمقاً وطنياً مرتبطة بكرامة الناس، لكن مما لا يعلمه كثر من رافضي حراك السويداء‬ أنّها أول مدينة تخوض معركة مباشرة مع بشار الأسد عقب تسلمه السلطة مباشرةً مطلع العام ألفين عندما حاصرها بالمدرعات وقتل عدداً من شبابها في انتفاضة مشابهة لحد كبير تلك التي حدثت في القامشلي عام ٢٠٠٤.
الحقيقة، هذا ليس رداً على المنطق القائل إن الثورة للجميع وحقها حق الجميع، وإنما رداً على السباق الزمني والأخلاقي والتحيز المفاهيمي بين الجوع والكرامة الذي قررته مجموعة تدعي أنّها تحمل انتماءً قيمياً فيه من الطبقية البرجوازية ما يكفي للاستنكار؛ لأنّ مفهوم الثورة الأساسي رفض أي شكل من أشكال التمييز، فإن لم يكن الجوع هو العنوان العريض لشريحة معينة في الثورة السورية فهو عنوان أعظم ثورات العالم، من ثورة الرق العبيد وسبارتكوس للثورة الفرنسية "ثورة الخبز" والربيع العربي الذي أشعل فتيله شاب عربي "محمد البوعزيزي" حرق نفسه احتجاجاً على الوضع الاقتصادي في تونس وبسبب مصادرة عربته التي كان يبيع عليها الخضار والفواكه لكسب رزقه.

إعادة تلاحم القوى الوطنية في سوريا بهدف الانتقال لدولة المواطنة تجسد بأبهى صوره عندما هتف المتظاهرون في السويداء لكل المدن السورية بما فيها مدينة إدلب التي تسيطر عليها المعارضة السورية.

وإن كان الجوع هو محرك ثورة السويداء فهذا لا يقلل من قيمته، فأن يثور الإنسان لأنه جائع فلا يقل ذلك صدقاً عن رفض ثلاثية القتل والجوع والظلم لأنها مثلث يخشاه أي نظام مستبد فيحميه ويدافع عنه لآخر رمق؛ ويربكه أي حراك يكون منطلقه تلك المفاهيم وقد يكون من الجيد ضمن هذا الباب التذكير بما قاله الصحابي أبو ذر الغفاري فيما يرتبط بثورات الجوع وحق الخروج والتمرد "عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه" في تعبير عميق عن أهمية انتفاض الناس لأجل الجوع دون التقليل من قيمة الدافع لأنّه حق وجزء أصيل من كرامة الناس، لا أعلم كيف يمكن التفريق بين الخبز والكرامة فإن لم تكن الكرامة نفسها مصحوبة بمطالب اقتصادية وسياسية فما هي إلّا شعارات لن تحسن شروط حياة الناس ومن قال إن الثورة السورية لم تخرج لأجل مطالب سياسية واجتماعية واقتصادية بالطبع.
وإنصافاً للسويداء فهي كانت من المدن السورية التي ثارت في وجه النظام منذ بداية الثورة السورية، ومنع الوجهاء إرسال الشباب "للجيش السوري" مبررين ذلك رفضهم قتل السوريين مما عرضهم لحملات أمنية مستمرة لم تتوقف، هذا ما عدا مشاركتهم في الثورة العسكرية ومن لا يذكر "خلدون زين الدين" الشهيد الذي انخرط في معارك جنوب سوريا ضد قوات نظام الأسد، كما لم تنقطع السويداء عن الحراك الشعبي على مدار ١٢ عاماً من الثورة السورية من أيام مواقف البلعوس ومروراً بحملة بدنا نعيش وليس انتهاءً بتظاهرات اليوم التي يمكن اعتبارها هي الأكبر والأخطر على النظام في ظل تهاوي سلطاته الأمنية.
يشكّل حراك السويداء فرصة جديدة للقوى الوطنية السورية بكل تنظيماتها لأجل إعادة ضبط البوصلة الوطنية، وتقييم الخطاب الجامع الذي يتجاوز الأيديولوجيا والانتماءات المناطقية والإثنية والتبعية للدول، هناك حاجة ماسة للسوريين لحوار بناءً يقوم على استعادة الدولة السورية من نظام الأسد والبدء بمساعي البناء، يشكل القرار الأممي ٢٢٥٤ مدخلاً مهماً للمرحلة القادمة لكن القرار سيبقى في إطاره النظري إن لم تتوحد القوى الوطنية وتنظر لمشتركاتها وتتجاوز خلافاتها المرحلية، وبدء التواصل وجزء من ذلك تنظيم المجتمعات المحلية لنفسها خاصة في السويداء ودرعا، والأهم أن يبقى التظاهر والحراك مستمراً ليس فقط في مناطق النظام إنما في مناطق المعارضة السورية.