الظاهرة الرياضية في الفعل السياسي الحدود والمساحات

2024.01.20 | 06:52 دمشق

الظاهرة الرياضية في الفعل السياسي الحدود والمساحات
+A
حجم الخط
-A

شكّلت الـظاهرة الرياضية تقاطعات مباشرة مع مبادئ العلوم السياسية وتفاعلاتها الإجرائية من ناحية الفعل والقرار والتكتيك السياسي، وباتت تلك الظاهرة تنمو مع الوقت كلما زادت نسبة العولمة على المستوى الدولي وارتفع دور المنظمات العابرة للدولة في إطار العلاقات الدولية كإحدى أهم القطاعات المولّدة لفلسفة "القوة الناعمة"، تجادل هذه الورقة بحدود العلاقة بين السياسة والرياضة ومدى تداخلاتها وكيف أن الرياضة خاصة "كرة القدم" باتت مركباً أساسياً في معادلة رسم الهويات والسرديات للأنظمة والدول والفاعلين، واستحالة الفصل بينهما طالما أن القطاع الرياضي يتشكل من بنية السلطات في الدول كقطاع مؤمم يلتصق بالدولة ويعكس هويتها الدينية والسياسية والاجتماعية.

الرياضة كأداة للتعبئة السياسية:

لا يمكن تجاهل أنّ كرة القدم هي لعبة متمردة كونها تعكس صورة عن الرموز والهويات المختلفة وتعبّر عنها ضمن بروتوكولاتها سواء عند عزف النشيد للدولة أو رفع العلم اللذين يعتبران أهم صور الهويات لأي نظام أو دولة، بل تعتبر معركة الرموز الأكثر رواجاً على المستوى الوطني لأنها انعكاس مباشر لصراعات هوياتية مختلفة بكونها مساحة استقطابية عالية تدغدغ مشاعر الشعوب وتلعب على أحاسيسهم المتفاوتة، ما يجعلها أداة مهمة للسلم والحرب بذات التوقيت، ولإدراك أنظمة مختلفة هذا البعد باتت توظف اللعبة كإحدى أبلغ أدوات السياسة الخارجية في تحصيل مكتسبات أو زيادة مستوى نزاعات أو خلق فرصة دبلوماسية للتطبيع والخروج من الحصار السياسي في نماذج دولية وإقليمية أو حتى محلية.

أكسبت تلك الدوافع الملاعب الرياضية أهمية كبيرة إذ رسمت بطابع سياقات سياسية مختلفة خاصة بعد الحرب العالمية الأولى، وارتفعت نسبها أكثر بالتزامن مع الحرب العالمية الثانية، بل جعلت تلك السياقات اللعبة مركزاً أساسياً في قوى الدولة وفواعلها وتأثيرها وتشكيل السرديات، فعلى سبيل المثال اعتمد هتلر على دورة الألعاب الأولمبية التي استضافتها ألمانيا إبان عهدة النازية لتكريس العرق الألماني على حساب القوميات الأخرى، لإثبات تفوق العرق من بوابة حصاد الميدالية وإبراز هذا التمايز والتفوق. الأمر ذاته تكرر عندما فازت الأرجنتين في بطولة كأس العالم في الثمانينيات تلميعاً لصورة الديكتاتور "خورخه رافائيل فيديلا" بعدما اعتُبر نجاحاً وطنياً لرئاسته حيث تحظى اللعبة في الأرجنتين باهتمام غير عادي مما ساهم بتشتيت أنظار الشارع الأرجنتيني نحو المنتخب على حساب المطالب السياسية الخاصة بانتهاكات حقوق الإنسان والانقلاب على النظام الديمقراطي حينها.

ولم تكن الرياضة بالمجمل أداة استقطابية فحسب، بل كانت دبلوماسية في ملفات معقدة حيث كان لها دور مهم في إعادة دمج اليابان في المنظومة الدولية عقب الحرب العالمية الثانية بعد منحها حق استضافة أولمبياد طوكيو عام 1968، وبذات الأداة والمدخل كانت الرياضة مفتاح تقارب العلاقات الصينية الأميركية منتصف الثمانينيات في ظل تموضع روسيا على المستوى الدولي؛ مما عزز من انحسار الاتحاد السوفييتي حينها ضمن ما سمّي "دبلوماسية البينغ بونغ" ولو لم تحمل هذه الرياضة بعداً سياسياً مباشراً لما قاطعت مصر دورة الألعاب الأولمبية في عام 1956 تزامناً مع حرب السويس أو مقاطعة الولايات المتحدة دورة موسكو للألعاب في الثمانينيات على خلفية غزو أفغانستان، وعلى مدار التاريخ لم يتغير شكل تلك اللعبة في الساحة السياسية خاصة ضمن إطار الاستقطاب فعلى سبيل المثال؛ شهدت مباراة إيران والولايات المتحدة سجالاً سياسياً كبيراً، ولم تخف واشنطن التوظيف الرياضي في علاقاتها الخارجية بعدما أنشأت وزارة الخارجية قسماً خاصاً للدبلوماسية الرياضية مما يعطي منحناً سياسياً للعبة ويعكس وزنها المتزايد في العلاقات الدولية مع تعاظم دور المؤسسات عابرة الجغرافيا في المنظومة الدولية.

الرياضة بوصفها سردية الاستبداد:

عاش نظام الأسد ذات العزلة على مدار سنوات الثورة السورية، وساهمت مواقف متباينة للاعبين السوريين في إضعاف هذه الأداة المهمة له مما جعل اللعبة تنحسر بشكل كبير على المستويين المحلي والدولي خلال الأعوام الأولى من الانتفاضة السورية وما تلاها من صراع عسكري، لكن مع بدء مسار التواصل التقني مع الأسد عام 2018 عاد الاهتمام بمنتخب كرة القدم في محاولة تصدير صورة مختلفة عن النظام لتجاوز سجله السيئ بخصوص انتهاكات طالت شخصيات مدنية وارتكابه مئات المجازر بحق الشعب السوري، ومن أهم ما قام به الأسد ضمن مسار "إعادة الانخراط" التمويه بإصلاح بنية منظمات المجتمع المدني بحدود لا يتجاوز السلطة وتصدير شخصيات جديدة.

أفلحت تلك التكتيكات في عودة النظام للمساحة الإقليمية من جديد خاصة من البوابة الرياضية فشهدت تصفيات كأس العالم 2018 عودة الصخب للمنتخب مع اهتمام غير مسبوق به وعودة لاعبين سبق لهم أن عبروا عن مواقف سياسية مناهضة له، ومنذ ذاك الحين أصبح المنتخب حديث الشارع الرياضي بين مؤيد له ومعارض؛ حتّى الشارع المعارض نفسه انقسم على نفسه متبنياً سردية "الفصل" وتجاوز صراعات الهوية السياسية التي تبلورت بوضوح بعد الثورة السورية، وكان هناك محاولة إسقاط واضحة للنموذج العراقي على السوري في اللعبة، لكن هذا الإسقاط مبتور السياق؛ لأن النموذج العراقي في اللعبة حاول تجاوز الانقسامات الطائفية وليس في صراع بين مجتمع وسلطة.

حاول الأسد مع الوقت، إعطاء أهمية أكبر للعبة عبر بدء استدعاء لاعبين أجانب من أصول سورية سيما عند نجاح تجربة تصفيات كأس العالم في تلميع صورته الدولية والإقليمية بحدود جيدة، ولم تكن مشاركة المنتخب في كأس العرب 2021 وكأس آسيا 2023 أقل أهمية من بطولات غيرها حيث عُزف النشيد الرسمي للنظام لأول مرّة بعد انقطاع دام سنوات وذلك خلال استغلال الأسد لبنية المجتمع الدولي الرياضية؛ التي تدّعي فصل المواقف السياسية عن الظاهرة الرياضية مع أن الاتحاد الرياضي يتبع إدارياً لمكتب الشباب المركزي في حزب البعث العربي الاشتراكي مما يعني استحالة الفصل النظري والمؤسساتي البنيوي في عقلية نظام الأسد.

الرياضة تكتيكاً لتغيير الانطباعات:

كما أن اللعبة تعتبر أداة للتعبئة والتعويم يمكن أن تكون حاملاً للتنمية ذات استخدامات سياقية مختلفة الأوجه، حيث التفتت الدول العربية لأهميتها مع بداية العقد الثاني من الألفية الثانية، انفتحت دولة قطر على اللعبة بشكل كبير بعدما أعلنت نيتها استضافة كأس العالم ونجاحها في الحصول على نسخة الاستضافة عام 2022، وشكّلت تلك الدوافع رغبة كبيرة لها للمضي بسلسلة إصلاحات سياسية واقتصادية في الدولة كان أهمها: السجل الخاص بالعمالة الأجنبية وسجل حقوق الإنسان والبنية التحتية وتوسيع هامش الفعل على مستوى الانتخابات البرلمانية وإلغاء نظام الكفالة وتحسين ظروف العمل وشروطه.

جعل ذلك قطر محط أنظار العالم خلال الكأس الأخيرة، فسعت من خلاله لتغيير انطباع العالم نحو دول الخليج والعرب والمنطقة الآسيوية والعالم الإسلامي ككل، وإعادة تعريف مركزية اللعبة ليكون هناك انزياح من أوروبا نحو الوطن العربي، وقد تكللت تلك المساعي بصدام فكري وموجة كبيرة من الانتقادات اللاذعة طالتها خاصة حول ملاحقة ملف العمالة وانتهاكات حقوق الإنسان ومحاولة إثارة ملف الجماهير "الإسرائيلية" وعلاقة قطر بدولة الاحتلال فضلاً عن التشكيك بقدرات الدولة في الاستضافة وتأثير الثقافة العربية والإسلامية في تأطير وحد الحريات بخصوص ثقافات الجماهير الوافدة ذات الطابع الغربي.

في المحصلة، استطاعت قطر تحويل الرياضة لأداة تنموية بذات التوجه الذي حملته المملكة العربية السعودية، كذلك تصدير سردية جديدة مغايرة الانطباع؛ وبهذا يمكن القول إن إمكانية فصل الرياضة عن السياسة مستحيل لكن إمكانية استخدامها أكيد سواء بهدف تطبيع أنظمة مستبدة كنظام الأسد أو تنمية الدول وتطويرها كحالة قطر والسعودية.